عادي
الشعر منبع الحكمة في أبرز الحواضر العربية قبل الإسلام

«مجلس الحيرة» لسلطان.. مرآة تعكس تاريخنا الناصع

00:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
أبطال المسرحية
مشهد من العرض

الشارقة: عثمان حسن
جاءت مسرحية «مجلس الحيرة» لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، التي عرضت مساء الأربعاء، ضمن فعاليات مهرجان الشارقة للشعر العربي، وهي من إنتاج مسرح الشارقة الوطني وبطولة عدد من نجوم المسرح الإماراتي والعرب وإخراج محمد العامري، جاءت لتضيف إلى ما سبق وأنجزه صاحب السمو حاكم الشارقة من أعمال مسرحية خالدة، وهذه المرة من خلال نص ماتع، وماكن، ويلعب فيه الشعر دوراً رئيسياً في توثيق الأحداث.

قدم نص مسرحية سموه مقاربة مهمة لدور الشعر في إمارة الحيرة في العصر الجاهلي، بوصف هذه الإمارة كانت من أقوى الحواضر، وأكثرها استقراراً وأطولها عمراً، وأيضاً الأبلغ تأثيراً في عرب ما قبل الإسلام سواء في المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو العمراني، تلك المستويات التي كان من نتائجها قيام نهضة أدبية كان لعرب الحيرة وأمرائها أبلغ الأثر فيها.

ومن المهم في هذه العجالة أيضاً، أن نشير إلى شخصيات المسرحية التي حرص صاحب السمو حاكم الشارقة أن يبرزها في نصه «مجلس الحيرة» وعلى رأسها الملك النعمان بن المنذر، الذي تدور في مجلسه في الحيرة، تفاصيل كثيرة تضيء على سطوع مجد عربي رفيع، بما فيه من حكمة وشجاعة وفروسية، وما اكتنزته هذه الفترة من قيم خالدة وساطعة على مر التاريخ، لذا، تبرز شخصية الملك النعمان بن المنذر كشخصية محورية، اجتمعت في مجلسه شخصيات أخرى (نحو 20 شخصية) وصفها الأخير أي –النعمان- بحكماء العرب، ومن هذه الشخصيات: (أكثم بن صيفي التميمي، الحارث بن عباد البكري، النابغة الذبياني، عمرو بن الرشيد السلمي، الحارث بن ظالم المري، ابن عم عمرو بن كلثوم، الملك عمرو بن هند، ليلى بنت المهلهل، هند أم عمرو، وخالد بن جعفر الكلابي، قيس بن مسعود البكري، والمنخل اليشكري وغيرهم).

ثقافات وشعوب

هذا الاستهلال، يضيء على زمان ومكان الواقعة التاريخية حيث «الحيرة»، ويبرز تفاصيل مهمة تظهر مجد وثقافة وشكيمة وحلم العرب في الجزيرة العربية وعلى ضفاف الفرات، كأقوام وشخصيات مؤثرة في التاريخ، بما حملوه من إبداع فكري وثقافي وقيمي، برز أكثر ما برز في أشعارهم ودواوينهم التي تنضح بالحكمة والقوة والشجاعة والفروسية وغيرها من المآثر الخالدة على مر التاريخ.

في استهلال النص ثمة إضاءة على معلقة عمرو بن كلثوم، ومناسبة هذه المعلقة، والتي ينتصر من خلالها ابن كلثوم لوالدته ليلى بنت المهلهل بن ربيعة، وثمة إضاءة لافتة في النص تفصل هذه الحادثة، حيث ورد أن ملك الحيرة عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه: «هل تعلمون أن أحداً من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟ فقالوا نعم، عمرو بن كلثوم، قال: ولم ذاك؟ قالوا: لأن أباها مهلهل بن ربيعة، وعمها وائل أعز العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وابنها عمرو بن كلثوم سيد من هو منه، فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم أن يزوره هو وأمه في الحيرة، فأجابه عمرو بن كلثوم مع نفر من وجهاء تغلب، واصطحب معه أمه.

وأمر عمرو بن هند أن يضرب له رواقاً بين الحيرة والفرات، وطلب من أمه أن تنحّي الخدم، وتستخدم ليلى والدة عمرو بن كلثوم، ثم طلب عمرو بن هند بالطعام أن يوضع، وهنا، طلبت أم عمرو بن هند من ليلى والدة ابن كلثوم أن تناولها طبقاً للطعام، فأجابتها ليلى:«صاحبة الحاجة إلى حاجتها»، فكررت عليها الطلب وألحت، فأدركت ليلى سوء ما حيك لها، فصاحت: واذلاه، يا لتغلب.. يا لتغلب؟، فسمع ابنها عمرو بن كلثوم استغاثة أمه، فثار الدم في وجهه، ونظر إلى عمرو بن هند، وتناول سيفه وقتله به، ونادى في بني تغلب، ثم كانت معلقته الشهيرة والتي يقول فيها:

بِأَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرُو بْنَ هِنْدٍ

نَكُوْنُ لِقَيْلِكُمْ فِيْهَا قَطِيْنَا

بِأَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ

تُطِيْعُ بِنَا الوُشَاةَ وَتَزْدَرِيْنَا

تَهَدَّدُنَا وَتُوْعِدُنَا رُوَيْداً

مَتَى كُنَّا لأُمِّكَ مَقْتَوِيْنَا

فَإِنَّ قَنَاتَنَا يَا عَمْرُو أَعْيَتْ

عَلى الأَعْدَاءِ قَبَلَكَ أَنْ تَلِيْنَا

وَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ مِنْ مَعَدٍّ

إِذَا قُبَبٌ بِأَبطَحِهَا بُنِيْنَا

بِأَنَّا المُطْعِمُوْنَ إِذَا قَدَرْنَا

وَأَنَّا المُهْلِكُوْنَ إِذَا ابْتُلِيْنَا

وَأَنَّا المَانِعُوْنَ لِمَا أَرَدْنَا

وَأَنَّا النَّازِلُوْنَ بِحَيْثُ شِيْنَا

إلى آخر القصيدة التي تعدد مآثره ومآثر أجداده في العز والفخار والمروءة والشجاعة والبأس والدهاء والحلم.

البلاغة والفصاحة

حمل نص سموه الكثير من الدلالات والمعاني التي لها في تاريخ العرب بصمة ميزتهم عن غيرهم من الأقوام، ومن ذلك ما قاله أكثم بن صيفي التميمي أمام كسرى وقد أوفده الملك النعمان ليترأس وفد القبائل والحكماء، وكان أكثم بن صيفي أشهر حكام العرب في الجاهلية، وأول من تكلم منهم أمام كسرى، وقال: «إن أفضل الأشياء أعاليها، وأفضل الملوك أعمها نفعاً، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها، الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر مركب وطيء، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر، حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي،... الخ» وقد تعجب كسرى منه وقال له: «ويحك يا أكثم ما أحكمك وأوثق كلامك، لو لم يكن للعرب غيرك لكفى»، وهكذا كان أكثم من الخطباء البلغاء الفصحاء ليس في قومه فقط، بل عند جميع العرب، وعند غيرهم من الأمم.

وثيقة

بهذا، تُعدّ مسرحية «مجلس الحيرة» لصاحب السمو حاكم الشارقة بمثابة رسالة ووثيقة واضحة المعاني معبرة عن التاريخ العربي الزاهر، وقد استطاع سموه من خلالها أن يستعيد أمام المشاهد العربي فصولاً من فصول مرحلة عربية زاهرة، بما فيها من نضج وحكمة وثقة، ومن خلال الشعر وفصاحته، مؤكداً سموه على أن التاريخ العربي لا يقف عند حدود التدوين والسرد، بل هو بمثابة تراث أمة ضاربة في التاريخ لها مخزون فكري وتراثي هائل بما يحمله من فرادة وتميز، كما استطاع صاحب السمو حاكم الشارقة من خلال نص المسرحية أن يقدم لنا شخصيات عربية وازنة، تبوّأت مناصب رفيعة في تلك الفترة، في الملك، والرياسة، والعلم والأدب، وخاصة «ديوان العرب» بما حمله من بديع القول وما فيه من حكمة، وصور، وأفكار ما زالت ماثلة إلى يومنا هذا، وهي من دون شك رسالة تبث الثقة في نفوس الأجيال العربية، وتمنحهم قوة، ومنعة، ليعتدّوا بتاريخهم وأصولهم، ولكي يبدأوا مرحلة جديدة، تزيدهم عزماً وقوة، وإصراراً على النجاح في كافة ميادين الحياة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/maj9442y

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"