المثقّف والسّلطة في «السياق العربي»

00:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.إدريس لكريني

حظي المثقف وأدواره داخل المجتمع باهتمام فكري كبير من لدن عدد من الباحثين والفلاسفة منذ القدم، الذين ركزوا ضمن مقارباتهم المختلفة الواردة في هذا الشأن على المكانة والمسؤوليات اللتين يستأثر بهما المثقف والمفكر داخل المجتمع.

لا ترتبط صفة المثقف بالشهادات الجامعية أو العلمية، بقدر ما تتصل أساساً بمستوى الإنتاجات الفكرية والمساهمة الفعلية في بلورة مواقف وآراء تعزز النقاشات بصدد عدد من القضايا المجتمعية، إضافة إلى السعي لإيجاد إجابات وحلول لإشكالات ومعضلات مجتمعية مختلفة.

على امتداد التاريخ الإنساني، ظلت العلاقة بين المثقف والسلطة باعتبارها المالكة للقوة المشروعة، تتأرجح بين المد تارة، والجزر تارة أخرى، تبعاً للظروف السياسية والاجتماعية التي مرت بها المجتمعات، ولطبيعة وتموقع النخب المثقفة نفسها، وتبعاً لموقف صانعي القرار السياسي في هذا الخصوص.

إن الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة، تختلف من مجتمع لآخر، تبعاً لطبيعة الثقافة السياسية السائدة، وللوضع السياسي القائم، وما إذا كان ديمقراطياً ومنفتحاً أو مستبداً ومنغلقاً. ففي الحالة الأولى، غالباً ما تسود علاقة تعاون وتواصل ملؤها الثقة والتشاور البنّاء، الذي يسمح بعقلنة القرارات السياسية بما يطرحه المثقفون والباحثون من أفكار واجتهادات. أما في الحالة الثانية، فعادة ما تكون هذه العلاقة متوترة ويشوبها الشك وعدم الثقة بين الجانبين، وهو ما يفوّت على المجتمعات الكثير من الفرص.

وتشير الكثير من المحطات التاريخية إلى العلاقة المتوترة التي كثيراً ما طبعت العلاقة بين السلطة السياسية و«سلطة الفكر»، دفع فيها عدد من المفكرين ثمناً باهظاً كلفهم حرياتهم وسلامتهم الجسدية. فقد دخل «مارتن لوثر» (1483-1546) في صراع حاد مع رجال الكنيسة بسبب آرائه الجريئة التي كانت سبباً في طرده من الجامعة. وتحدّى «جاليليو جاليلي» (1564- 1642) السّلطة وأفكارها ومعتقداتها المتكلّسة السائدة في حقل الفلك، مدافعاً عن مبدأ مركزية الشمس ودوران الأرض حولها، حيث تم اتهامه بالهرطقة وتعرض للمحاكمة، قبل أن تعترف سلطة الفاتيكان بخطئها بعد مرور أكثر من ثلاثة قرون عن وفاته، وتقوم في شهر مارس/ آذار من عام 2008 بالتكفير عن ذلك بوضع تمثال لهذا المفكر داخل جنبات الفاتيكان.

إن دور المثقف ليس هو العيش في برج عاجي بعيداً عن انشغالات وهموم الناس، أو تبرير ما تقبل عليه السلطة من مبادرات وسياسات، بل هو التفاعل بشكل إيجابي مع المحيط، بإنتاج الفكر الذي يدعم تطوير المجتمعات، ويساهم في تنوير العقول، ومواكبة التحولات المجتمعية، في إطار من الحرية والمسؤولية، والمساهمة في تحقيق التنمية الإنسانية.

تتحمل النخب المثقفة مسؤوليات كبرى داخل المجتمعات، من حيث المساهمة في بلورة فكر تنويري وإصلاحي يساهم في تنشئة المجتمع وفي توجيه النصح والنقد البناءين لصانع القرار السياسي.

وتبرز الكثير من التجارب الدولية المعاصرة التي يستأثر فيها المفكر والباحث والمثقف بمكانة لائقة داخل المجتمع، أن الانفتاح على ما يفرزه المشهد الثقافي من نقاشات وأفكار واجتهادات، هو عامل مهم في تعزيز عناصر القوة الناعمة التي تعطي للدول مكانتها اللائقة بين الأمم كفضاءات جاذبة للسياحة والاستثمار، بل وعنصر مهم من عناصر عقلنة القرارات والسياسات وتحقيق التطور والرفاه.

إن كسب هذا الرهان، لا يسائل المثقف وحده، بل يتطلب وجود سياسات ثقافية استراتيجية، تثمن كل الإنتاجات الفكرية، وتعطي للنخب المثقفة المكانة الحقيقية التي تليق بها داخل المجتمع، علاوة على انفتاح صانعي القرار على ما يزخر به هذا المشهد من إسهامات فكرية وبحثية كفيلة بمواجهة عدد من المعضلات المجتمعية، وإعطاء المنتوج الثقافي حقه ضمن قنوات الاتصال العمومي، بما يساهم في إرساء ثقافة مجتمعية تقدر الفكر والمثقفين، علاوة على توفير ضمانات قانونية تدعم حرية التعبير، وحماية الملكية الفكرية.

اعتباراً لكون المشهد الثقافي لأي بلد هو مرآة تعكس أوضاعه السياسية، وأولويات وتطلعات مجتمعه، يبدو أن المشهد الثقافي في عدد من البلدان العربية ما زال بعيداً عن تطلعات المواطن، وعن مواكبة التحولات الكبرى والمتسارعة التي يشهدها العالم على عدة مستويات، ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، كما أن علاقة المثقف بالسلطة ما زال يشوبها الكثير من الالتباس والشك. وهو الوضع الذي عمّقه تطور وسائل الاتصال الحديثة وما أحدثته طفرة «الإنترنت» من بروز ل«مؤثّرين»، غطّوا بنقاشاتهم التي كثيراً ما تطبعها السطحية والشعبوية على النقاشات الفكرية الجادة.

إن الواقع الذي تشهده عدد من دول المنطقة من حيث تراجع مكانة الفكر والمعرفة، وتردّي مكانة الكتاب والبحث العلمي داخل المجتمع، في مقابل تصاعد الخطابات التافهة والسطحية، أصبح يفرض على المثقف تحمل مسؤوليته في إرساء نقاشات نقدية بناءة، تساهم في مواجهة التخلف، وتعيد الاعتبار للثقافة والمعرفة كرافد لتحقيق تنمية مستدامة محورها الإنسان.

كما أن الأمر يسائل الدول من حيث الاستثمار في حقل الثقافة كخيار استراتيجي مربح، وبخاصة أن هناك طاقات وكفاءات فكرية واعدة تزخر بها مجتمعات المنطقة، تلزمها الإمكانيات والشروط الملائمة، وتوفير الفرص، حتى تساهم في تطور مجتمعاتها، بدل اختيار الهجرة نحو فضاءات أخرى أكثر تقديراً للفكر والمعرفة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/28n2d2a6

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"