تصاعد العسكرة وتفتيت العالم

00:43 صباحا
قراءة 4 دقائق

حسام ميرو

أين أصبحت مقولة العالم قرية واحدة؟ تلك المقولة التي سادت في تسعينات القرن الماضي، مدفوعة بالموجة العولمية، ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، حيث بدا أن ثورتي التقانة والاتصالات تقومان بتوحيد العالم، وجعله مترابطاً، بفضل التطوّرات النوعية والواعدة آنذاك، لربط البشرية ببعضها البعض، والدفع نحو توحيد القيم، عبر تسيّد قيم المنظومة الليبرالية الغربية، من حريات عامّة وفردية وحقوق إنسان وحريات تعبير إعلامية وديمقراطية وتعددية سياسية، وما إلى ذلك. ومن وراء هذا الإيحاء بانتشار قيم هذه المنظومة عالمياً، كان هناك عمل حثيث على ضفة أخرى، هي ضفة استبدال أنماط الاستهلاك بنمط واحد، هو نمط الاستهلاك الرأسمالي.

لم يطلق جيش الولايات المتحدة، ولا حلف الأطلسي، أي رصاصة للإجهاز على الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية، فقد سقط من داخله، ببساطة «لم تعد الديناميات الداخلية له قادرة على إبقائه حيّاً»، كان هذا ولا يزال التحليل الأكثر رواجاً لسقوط الاتحاد السوفييتي، وهو ليس تحليلاً خاطئاً كلّياً، لكنه يشبه ما اصطلح بتسميته ذكر نصف الآية وإغفال نصفها الآخر، وفي حالة تشريح أسباب سقوط تجربة إمبراطورية، كتجربة الاتحاد السوفييتي، امتدت لأكثر من سبعة عقود، فإن السبب الداخلي، على الرغم من أهميته، يحتاج إلى سبب خارجي، لا يقلّ أهمية.

هناك مفتاحان أساسيان في العلاقات الدولية، هما موارد الطاقة وسوق العمل الدولي، إذ لا يمكن لأي دولة عظمى أن تبقي على مكانتها من دون القدرة على التحكم بمنافذ الطاقة، وفرض سلعها في الأسواق العالمية، وإلا فإنها تحكم على نفسها بالاضمحلال، قبل أن تعلن موتها، ولقد بدأ الاتحاد السوفييتي منذ سبعينات القرن الماضي بفقدان موقعه في خارطة النفوذ المتعلقة بموارد الطاقة العالمية، التي تمكّنت الولايات المتحدة من إحكام سيطرتها بقوة عليها، وكذلك، لم يتمكن الاتحاد السوفييتي من المنافسة في سوق العمل الدولي، إذ تراجعت قدرة منتجاته على تحقيق منافسة جدية مع السلع الغربية، واليابانية، ولاحقاً الصينية، وبالتالي، فإن قلبه لم يعد قادراً على ضخّ الدماء في شرايين جسده الجغرافي والسياسي الممتد على مساحة واسعة من العالم.

في الحرب الباردة التي امتدت لأكثر من أربعة عقود بين الولايات المتحدة وحلفائها، وبين الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية، كان سباق التسلّح بين الطرفين له هدف محدّد، مرتبط بإيجاد منظومة ردع، لمنع حدوث اصطدام كبير من شأنه إشعال حرب عالمية، خصوصاً أن ذكريات الحربين العالميتين، كانت ماثلة في أذهان القادة، بكلّ خسائرها البشرية الهائلة، التي بلغت عشرات الملايين من الضحايا، وما حصدته مدن أوروبا، والمدن اليابانية من دمار كارثي، ولذلك، فإن مصطلح الحرب الباردة كان يترجم في الواقع إلى حالة سلام بارد، أمكن له، على الرغم مما انطوى عليه من أزمات، أن يمنع اندلاع حروب إقليمية كبرى، وأن يوجد آلية بين القطبين الكبيرين، لصناعة هُدن إقليمية، تمنع توسّع دائرة بعض الحروب، وهذه الحالة من السلام البارد أسهمت إلى حدّ معقول، ومتفاوت نسبياً في صناعة حالات من الاستقرار والتنمية للعديد من الدول.

استعادة هذه السردية التحليلية التاريخية، تبدو اليوم أكثر من ضرورية، ونحن نشهد موجة غير مسبوقة في الاحتدام الموجود في النظام الدولي، وتصاعد موجة العسكرة على نطاق واسع، وعودة بعض الدول المهمّة، التي كانت قد تخلّت جيوشها عن العقيدة الهجومية، إلى تبنيها مرة أخرى، كما يحدث في اليابان وألمانيا، اللتين عادتا إلى ضخّ الموارد الكبيرة في المؤسسة العسكرية، ووضع سيناريو الحرب كأحد السيناريوهات المرجّحة في رأس قائمة الحسابات السياسية والعسكرية.

على الرغم من الهيمنة الأساسية للولايات المتحدة في المشهد الدولي، في نواحيه المتعددة، الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والتكنولوجية، والمالية، إلا أن هذه الهيمنة ليست كافية إلى الحدّ الذي يمكّنها من منع تصاعد النزاعات الدولية، بل إنه، وبشكل من الأشكال، بسبب هذه الوضعية، من الهيمنة غير الكافية، تتمكّن أطراف عديدة من الانخراط في الصراعات، لتغيير قواعد اللعبة الدولية، والحدّ من نفوذ الولايات المتحدة، كطرف وحيد في تحديد اتجاهات السياسات الدولية.

قبل عامين فقط كان يصعب على أكثر المتشائمين حيال ما آلت إليه الأوضاع في العلاقات الدولية، أن يتخيل حدوث حرب بين دولتين مهمّتين في أوروبا، لكن حرب روسيا على أوكرانيا، أظهرت أن تردّي العلاقات الدولية وصل إلى حالة انفجار، ولم يعد الأمر مجرد أزمة كبيرة، يمكن لمختلف الأطراف التكيّف معها، وإدارتها بعيداً عن الانخراط في حرب مباشرة، كما سيظهر لاحقاً، أن هذه الحرب هي مجرد مقدّمة لانفجارات أخرى، قد تكون أكثر كارثية، وتهديداً للأمن والسلم الدوليين، وهما أمران لم تعد الأمم المتحدة قادرة على تحقيقهما، بوصفها المظلة الدولية الأكبر لمعالجة الأزمات، بل أصبحت مظلة كاشفة لمستويات الخلل في العلاقات الدولية.

ما يحدث الآن في غزة وباب المندب، وتبادل الضربات العسكرية بين اللاعبين الدوليين والإقليميين في الشرق الأوسط، هو فصل جديد على طريق عسكرة العالم، الذي يبدو أن مقولة تحوّله لقرية واحدة أصبحت وراءنا، وما ينتظرنا هو تمترسات واستقطابات وحروب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/dbxejf2w

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"