عادي
مقاربات غير مطروقة في العرض الافتتاحي لأيام الشارقة المسرحية

حكاية أرواح مسافرة في «تكنزا.. قصة تودة»

19:09 مساء
قراءة 4 دقائق
مهرجان أيام الشارقة المسرحية تصوير يوسف الامير

الشارقة: علاء الدين محمود

يشكل العرض المغربي «تكنزا.. قصة تودة» الذي افتتح النسخة ال33 من مهرجان «أيام الشارقة المسرحية» علامة مميزة لكونه من الأعمال المختلفة على مستوى الابتكار في العرض وحكاية القصة، بحلول ومقاربات إخراجية غير مطروقة، فيما تحضر الأسطورة بصورة كبيرة، لتهيمن على العرض الذي استدعى العديد من التقنيات الإخراجية، بطريقة تبدو معها حكاية العمل وكأنها تجري في أجواء حالمة وغريبة، حيث تسود الفضاءات الصوفية والروحية وهو الأمر الذي عمل على تعزيزه العمل بالعديد من الرؤى الإبداعية من موسيقى وألوان وإضاءة.

فاز العرض بجائزة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لأفضل عمل مسرحي عربي، في مهرجان «المسرح العربي»، الذي انعقد في العراق شهر يناير الماضي، وهو من تأليف طارق الربح وإسماعيل الوعرابي، وإخراج أمين ناسور.

يستلهم العرض في حكايته قصة تراثية أسطورية معروفة في جنوب المغرب، حيث القبائل والثقافة الأمازيغية الصحراوية، تتحدث عن امرأة تدعى «رقية»، مفتونة بصورة مجنونة بغناء «الأحواش»، ذلك الطقس الغنائي الذي تنجذب إليه، وكما الدرويش في حضرة الذكر، تحلق تلك المرأة في عوالم تلك الموسيقى لتصبح كل حياتها، غير أن ذلك الأمر يثير حفيظة زوجها، الذي لم تعجبه حياة زوجته واهتمامها بالموسيقى والغناء بتلك الطريقة المجنونة، فيقوم بسجنها في مكان مظلم بنافذة صغيرة تجلب إليها الهواء، وفي أحد الأيام تتسلل لتلك المرأة أصوات وأنغام الأحواش، فيستبد بها الطرب الشديد، ليأتي المغنون ويتجمعون حول تلك الغرفة، ليغنوا لها بعد أن عرفوا حكايتها.

ولعل أهم ما في حكاية رقية تلك، جهة ارتباطها بالعرض، هو وضع المرأة غير القادرة على تحقيق هوايتها أو أحلامها أو رغباتها، فقد تعرضت للظلم والقمع من قبل الشخص المسؤول عنها وهو زوجها، لتسجن آمالها وتطلعاتها معها في تلك الحجرة الضيقة التي صارت سجناً لها، بالتالي فإن الملاحظة الجديرة بالذكر أن أثر تلك الحكاية أو الأسطورة الشعبية رغم بساطتها، إلا أنها مصدر إلهام قوي في العرض.

والعمل يتناول العديد من المواضيع، أهمها قضية المرأة والهيمنة الذكورية، والترحال والأسفار من أجل حياة جديدة مختلفة بحثاً عن الانعتاق والحرية، وينتقد الظلم الاجتماعي الذي يقع على النساء والسلطة التي تمارس من قبل أفراد الأسرة والعائلة على النساء خاصة الأب والأخ وغير ذلك من أشكال الهيمنة.

*هيمنة

ويحكي العمل قصة تودة تلك الفتاة، التي تسير على درب أسطورة رقية، تنشأ تودة وسط هذا المجتمع الذي يمارس فعل الهيمنة على النساء، وتسود فيه سلطة القيم والعادات والتقاليد القديمة، فتفكر في الهروب من تلك الأجواء وتقرر أن الرحيل من ظلمات الجهل في القرية، إلى أنوار العلم والمعرفة المدينة، حيث الحياة الحديثة والقيم المختلفة، وحيث الجامعة، بالتالي فإن تودة في العمل تتحول إلى أيقونة رفض الظلم والثورة على الاضطهاد والبحث عن استقلال الذات، ومثلما كانت رقية مفتونة في الحكاية الأسطورية بالغناء، فإن تودة بطلة العرض كانت هي الأخرى مغرمة بالموسيقى، كما كانت أمها المتوفاة كذلك عاشقة للغناء والموسيقى، وهو الأمر دفع زوجها، للتضييق عليها، فتتكرر مع الأم قصة «رقية» الأسطورية، إذ يقوم الزوج بسجن زوجته.

في المدينة، تلتقي تودة بوجوه جديدة، وأفكار مختلفة، وتتعرف إلى صديقة لا تشبه فتيات القرية، وسرعان ما تقع في حبائل الحب والغرام، وهي في الأصل كانت مستعدة لهذه اللحظة نسبة لشخصيتها الرومانسية العاشقة للفن والموسيقى، وعلى الرغم من ذلك فإن تودة تظل مشدودة بقوة إلى جذور القرية، بطريقة تمنعها من الاندماج مع الحياة المدينية، فتقرر أن تعود مرة أخرى إلى القرية، فالخلاص الحقيقي لها لا يكمن في المدينة، بل في ذات البيئة التي نشأت فيها.

العمل يتناول بقوة واقع تحريم جماليات الحياة في تلك القرية ويحفل بالصراع الشديد والمحتدم، بين شخصيات تمثل الماضي بكل سلطته، والحاضر ورغبة ممثليه في القطع مع ذلك الماضي، ليقع التصادم في المفاهيم والأفكار والتصورات، وهو صراع لا يبدو أن ثمة حل فيه، أو أفق يقرب الشقة بين الفريقين المتباعدين.

العرض يحتشد بالجوانب الشعورية العميقة، فالقرية ليست وحدها التي كانت تنادي تودة في غربتها، بل وبصورة أكبر صوت أمها المتوفاة التي كانت تودة تتحدث إليها وتشكو لها ما تلاقيه في الحياة، فصوت الأم الغائبة كان يمد الفتاة، ولعل رؤية «تودة»، لطيف والدتها هو استعانة امرأة بامرأة في عالم يهيمن عليه الرجال، حيث إن الأم وجدت ذات الأذى الذي لقيته رقية في الأسطورة الشعبية، وكأن تودة تبحث عن مصير مختلف في استدعائها المستمر لخيالات والدتها.

العمل جاء أشبه بالملحمة الشعرية، ولعبت الموسيقى الشعبية التراثية دوراً أساسياً في الحكاية، وتمثلت براعة المخرج من خلال المقترح الديكوري الذي قدمه عبر توظيف شاشات وخلفيات تظهر فيها وجوه الحكاية بطريقة منكسرة غير مكتملة لتشير إلى التشظي الكبير الذي يعيشه أبطال القصة، وتعزز روح الصراع بين الفتاة «تودة»، وأبيها «أبو جمعة»، وأخيها «علي»، لتأتي الحوارات كذلك لتضيء الكثير من جوانب الحكاية.

يستعين المخرج كذلك براوٍ ليقدم الحكاية في بداية العرض، لكن قصة العمل لا تخرج فقط من فم الراوي، بل ومن نغمات الموسيقى التي تحكى عن المكان والشخوص وتعكس الحالات النفسية، ليأتي الأداء التمثيلي المتقن مكملاً لتلك اللوحة المسرحية التي وجدت صدى كبيراً وسط الجمهور.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yu4fa2bb

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"