«عَجوبات» السودان الجديد

00:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. صلاح الغول*

بعد نحو 11 شهراً من حرب أهلية طاحنة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يشهد السودان كارثة اقتصادية إنسانية. فقد أدت الحرب إلى مصرع نحو 14 ألف شخص، وإصابة أكثر من 27 ألفاً و500 آخرين. وتجاوز عدد النازحين، داخلياً وخارجياً، 11 مليون شخص، فيما اعتبرته الأمم المتحدة أكبر أزمة نزوح في العالم. ونتيجة هذا الصراع «الأهلي» المركب، تُهدد نذر المجاعة أكثر من 25 مليون سوداني. وعلى الصعيد الاقتصادي، بلغت كلفة الحرب أكثر من 100 مليار دولار، وقادت إلى توقف نحو 70% من النشاط الاقتصادي، وتراجع معدل النمو الاقتصادي إلى -18.3%، وهوت العملة المحلية لأكثر من 50% من قيمتها، وارتفع معدل البطالة إلى 117.4% عام 2024.

ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه. فالدمار الذي خلفه ما يقرب من سنة عجفاء يعادل «دمار سوبا» في التاريخ السوداني. وكانت «سوبا» عاصمة مزدهرة لمملكة علوة التي كانت قائمة في أواسط السودان، لكنها تداعت في أوائل القرن السادس عشر. وتذكر الأساطير الشعبية أن المسؤول عن خراب «علوة» وتدميرها «بسوس» أخرى، تُسمى «عَجوبة».

وما أكثر «العَجوبات» في السودان اليوم! فقد زار وزير الخارجية السوداني، علي الصادق، طهران بحثاً عن دعم عسكري إيراني للجيش السوداني في مواجهة قوات الدعم السريع التي أحكمت سيطرتها على مساحات شاسعة غربي البلاد وجنوبها. ويتصل بذلك، وعلى الرغم من نفي الجانبين، فقد أكدت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن إيران طلبت بناء قاعدة عسكرية بحرية في السودان على البحر الأحمر. ولا شك أن ما نشرته الصحيفة الأمريكية هو تسريب متعمد من حيث التوقيت والهدف، حيث تزامن ذلك مع الاهتمام الأمريكي بالسودان. والأرجح أن البرهان يلوّح بورقة إيران لابتزاز واشنطن.

وأثناء زيارته طرابلس، التقى الفريق عبدالفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، الصادق الغرياني مفتي ليبيا «الإخواني» المعزول. وعلى الرغم من عدم تسريب معلومات حول لقاء البرهان مع الأخير، فإن مجاهرة البرهان بعلاقته ب«الإخوان» تثير التساؤل والفتنة جميعاً، وخاصة في علاقة البرهان مع مصر.

ولكن أكبر «عَجوبة» في السودان هو الفريق ياسر العطا، مساعد القائد العام للجيش السوداني، الذي دأب على مهاجمة دولة الإمارات، ودول إقليمية أخرى، واتهمها بالتدخل في الحرب الأهلية في السودان لمصلحة قوات الدعم السريع. وكان العطا قد طالب بتقديم شكوى ضد الإمارات في مجلس الأمن في هذا الادعاء.

وفي 9 مارس/آذار الجاري، أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً يدعو إلى وقف الأعمال العدائية في السودان خلال شهر رمضان، وأعلن الطرفان (الحكومة السودانية وقوات الدعم السريع) ترحيبهما بدعوة المجلس، وإن اشترطت الأولى خروج الدعم السريع من كل المدن التي دخلتها قواته بعد توقيع إعلان جدة للمبادئ الإنسانية في مايو/أيار الماضي. ولكن العطا يريد إفشال المسعى الأممي رسمياً،؛ بدعوى «ألاّ هدنة مع أناس بلا قيم ولا أخلاق ولا دين»، وأن قرار الشعب هو الانتصار وتدمير «الجنجويد» وبناء دولة السودان.

وقد رحبت الإمارات بقرار مجلس الأمن، وأعربت وزارة الخارجية الإماراتية «عن أملها في أن تسهم هذه الخطوة في تمهيد الطريق لإنهاء الأزمة بين الأطراف السودانية، وتجنيب الشعب السوداني المزيد من المعاناة». وأكدت الخارجية الإماراتية «دعمها لكافة الجهود المؤدية إلى وقف إطلاق النار وبدء الحوار السياسي، لاستعادة السلم والأمن، وتحقيق تطلعات الشعب السوداني في الاستقرار».

ومع ذلك، جدد الفريق ياسر العطا اتهاماته وهجومه العنيف على دولة الإمارات، زاعماً أنها «تريد السيطرة على الموانئ والأراضي الزراعية والموارد المعدنية في البلاد بواسطة «الجنجويد» (الدعم السريع)». ولا يعني هذا سوى اضطراب الدبلوماسية السودانية، بسبب تدخّل عسكريين تعوزهم الخبرة في ملفاتها. فهذه الاتهامات تُوصف بأنها «جزافية»، وتفتقر إلى المصداقية، وتفارق الأعراف والتقاليد الدبلوماسية المرعية، وتشدد «الطوق» حول رقبة السودان المأزوم، لأنها طالت أيضاً دول الجوار.

ولا يمكن أن ننهي هذا الحديث من دون الإشارة إلى «العَجوبات» في الطرف الآخر من قوات الدعم السريع، الذين يتحالفون مع ميليشيات قبلية ومنظمات مرتزقة عابرة للحدود، وتواصل انتهاكاتها لحياة وأعراض ومقدرات السودانيين.

وفي ضوء التطورات الآنف ذكرها، يبدو أن مسار الحرب الدائرة مفتوح على كل الاحتمالات بما فيها توسع دائرة الصراع لتشمل مناطق أخرى غير الخرطوم ودارفور، خصوصاً أن الطرفين يصرّان على الحسم العسكري، وتمدده إلى دول الجوار. ولذلك، فإن الاحتمال الأكثر ترجيحاً لمسار الصراع في المدى المنظور هو استمراره؛ إذ يصرّ الطرفان على القتال، ولم يُظهرا جدية تجاه المبادرات السلمية، ومن غير المرجح أن يتخلى أي منهما عن أهدافه، أو أن يلحق هزيمة حاسمة بالطرف الآخر، وهو ما يعني صراعاً طويل الأمد.

*متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4zd8r44n

عن الكاتب

كاتب متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الجيوسياسية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"