العراقة والثقافة والإبداع

00:38 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السويجي

عراقة الشعوب تشكلها تجليات الأزمنة، فلكل زمن رواده في السياسة والاجتماع والطب والأدب والفن والعلوم كافة، جميعها تشكل جذور العراقة وأساس الحضارة، هؤلاء الرواد هم من وضع اللبنات الأولى لكل مسيرة تنمية وتطور وتغيير، لهم فضل السبق وعرق البناء، وبالتالي، فإن حضورهم، والاحتفاء بهم ضمن مبادرات مستدامة، يجعل ترابط الأزمنة معياراً حقيقياً للتقدّم، الترابط الذي ينتج دروساً ونماذج، ويؤدي في النهاية إلى إيجاد ما يُسمى بالتراث، الذي هو العراقة.

فكل ماض نوعي أسّس بثبات لمرحلة لاحقة هو تراث، وكل تراث هو تراكم المعرفة في أبهى أشكالها، المعرفة التي يجب على الأجيال الإحاطة بها ومعرفتها، ليس كمعلومة عابرة، وإنما كثقافة تؤصل المفاهيم التي تدخل في نسيج الفهم، وتقود إلى وعي يدوم، ويُبنى عليه، في إطار تراكم الوعي، الذي يتحول على أيدي الدارسين والمفكرين إلى فلسفة، الفلسفة التي تحمل الأسئلة الإيجابية المنطوية على إجابات مفتوحة قابلة للاجتهاد والإضافة، والإضافة إبداع، والبناء على الإبداع ابتكار، إذ لا شي خُلق من العدم.

وإذا انتقلنا من التنظير إلى التجسيد، وقياساً إلى تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة في تحقيق التنمية وتأصيلها، سنتوقف عند مسائل تبدو بديهية، لكنها في الواقع هي أكثر من مجرد إنجاز، ولو ذكرنا مصطلح السياسة الخارجية، سنعثر، بعد التمعّن والدراسة، على رواد أسسوا لفلسفة السياسة الخارجية، ورجال عملوا باحترافية ومهنية عالية، في تطوير هذه السياسة إلى أن وصلت إلى حالتها الراهنة، والتي تتجلى في الشكل، في شبكة العلاقات المتينة التي تربط الإمارات بالدول، وفي الجوهر تتجلى في المفاهيم والمبادئ السياسية والإنسانية، والمحمولة على مشاريع اقتصادية وخيرية وعطاءات، التي رفدت صورة دولة الإمارات العربية المتحدة، كعضو نشط وفاعل في المجتمع الدولي.

ويتضح لنا، مع تجسيد النموذج، أن مخرجات السياسة الخارجية واضحة للعاملين في المؤسسات الدبلوماسية، وللإنسان العادي، ويستطيع أي مواطن التحدث بسهولة في هذا المجال، ويعود هذا إلى أثر هذه السياسة على المجتمع، حيث يسود الأمن والأمان والاستقرار. وعلى صلة بمحور الحديث، يتحدث المواطن عن شخصيات مؤسسة ورائدة تسكن في الضمير الجمعي للمجتمع، وتحولت إلى رموز للبناء والريادة والتنمية والاستدامة، وتوثّقت في التاريخ الناصع للدولة، والمهم في الأمر، أنها لم تتحول إلى تاريخ جامد يعيش في المتاحف، وإنما إلى تاريخ حيوي يشع في الزمن الحاضر، وشكّل البوصلة الدائمة عند الحديث عن المستقبل.

ولو تابعنا في تجسيد الريادة، سنعثر في المجال التربوي والتعليمي على رموز أسهمت في إحداث وتكوين التراكم، وعملت على تطوير المؤسسات التعليمية وتحديث المناهج، وكذلك الأمر في الميدان الاقتصادي والعمراني. لكن التجسيد سيكون واضحاً حين نتناول البنية التحتية للدولة، والتي قد تضم نماذج تنموية من كل فروع العمل الوطني، وما يميزها أنها ظاهرة للعيان، يلمسها المواطن والمقيم في كل صباح ومساء، مع كل حركة ومعاملة، مع كل قيادة سيارة وانتقال من مكان إلى آخر، وقد تحتضن الذاكرة مشاهد للتغيير، حيث القديم يعانق الحديث رغم عملية الاستبدال والبناء، رغم الإضافة والتغيير، هناك كثيرون يعرفون كيف كانت المدن وكيف تغيّرت، وهذا المخزون المعرفي في الذاكرة يجعل كل إنسان في الإمارات، مسهماً في كتابة التاريخ، وكاتب هذه السطور على سبيل المثال، يعرف كيف تطورت كليات التقنية العليا عدداً وعدة، ما يجعل التاريخ يمشي على ساقين حقيقيتين.

سأصل إلى الموضوع أو المحور الثقافي، حيث المؤسسات والجوائز التشجيعية والبرامج التوعوية شاهدة على بلورة فلسفة العمل الثقافي، لكنني سألج من هذا المحور إلى الإبداع الأدبي، ومن دون أدنى شك، هناك رواد في الكتابة الأدبية، وآخرون في إصدار المجلات والنشرات الثقافية، ولعل القارئ لاحظ أنني لم أذكر أي اسم في حديثي السابق، وسأواصل اتباع النهج ذاته، وأعيد التأكيد على وجود شخصيات مضيئة في كتابة الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح، هي التي أسست ما يسمى بالتراث الأدبي والفكري والإبداعي، وهذه الشريحة تكاد تدخل المتحف الأدبي، ولا تكاد تذكر إلا في الدراسات والبحوث القليلة، لكنها غير متوفّرة في ذاكرة الأجيال المبدعة اللاحقة.

نحن نعرف رواد السبعينيات والثمانينيات الذين أسسوا المؤسسات الثقافية والإبداعية، وكتبوا في الأشكال التعبيرية الإبداعية من قصة وشعر ورواية وخاطرة، لكننا لا نعثر على أثارهم إلا عن طريق الصدفة، والأغرب أننا لا نعثر على سيرتهم في تكوين الأجيال المبدعة الصاعدة، فلو سألنا كاتباً روائياً أو قاصاً عن كتّاب الثمانينيات والتسعينيات، وهل قرأ لهم أم لا، سيجيب معظمهم بأنهم لم يطلعوا على إبداعات رجال ذلك الزمن، وهي فترة زمنية ليست كبيرة، أي لا تتجاوز ثلاثين عاماً. وما ينطبق على الأدب ينطبق على الفنون الأخرى، مثل المسرح والفن التشكيلي، وعلى رواده المبدعين الكبار، الذين لا يُذكرون إلا لماماً.

صحيح أن أساليب الكتابة تطوّرت، وظهر مبدعون حديثون، وصحيح أن المسرح عانى من الصمت لفترات محددة، إلا أن هذا لا يعني عدم التوقف عند الرواد والاحتفاء بهم بين فترة وأخرى، ولا بأس من تضمين المناهج بهم. والحديث هنا ذو شجون..

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yck28ned

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"