استقلال البنوك المركزية

21:35 مساء
قراءة 4 دقائق

كريستالينا جورجيفا *

يواجه محافظو البنوك المركزية العديد من التحديات العالمية المتعلقة بضرورة خفض أسعار الفائدة هذا العام، مع تزايد مخاطر التدخل السياسي في عمليات صنع القرار، وعلى الحكومات والمحافظين مقاومة هذه الضغوط.

تنبع أهمية هذه التحديات مما حققته البنوك المركزية المستقلة في السنوات الأخيرة، حيث نجح محافظوها في إدارة الأزمة بفعالية وأطلقوا العنان للتيسير النقدي القوي الذي ساعد على منع الانهيار المالي العالمي وتسريع التعافي.

ومع تحول التركيز نحو استعادة استقرار الأسعار، شدد المحافظون سياسات مؤسساتهم النقدية، وإن كان ذلك على جداول زمنية مختلفة. وساعدت استجابتهم تلك في الحفاظ على توقعات التضخم ثابتة في أغلب البلدان، حتى مع وصول زيادات الأسعار إلى أعلى مستوياتها منذ عدة عقود. وكانت الأسواق الناشئة في طليعة من ركبوا موجة التشديد وبقوة، الأمر الذي أدى إلى تعزيز مصداقيتها.

وقد ساهمت هذه الإجراءات التي اتخذتها البنوك المركزية بخفض التضخم إلى مستويات أكثر قابلية للإدارة، وتلاشت معه مخاطر الهبوط الحاد. ورغم أن المعركة لم تنته بعد، فإن نجاحها حتى الآن يرجع إلى حد كبير إلى الاستقلال والمصداقية التي اكتسبتها العديد من البنوك المركزية في العقود الأخيرة.

ويتناقض هذا النجاح في خفض التضخم بشكل حاد مع عدم الاستقرار الاقتصادي الذي ساد خلال فترة التضخم المرتفعة في السبعينات. في ذلك الوقت، لم يكن لدى البنوك المركزية تفويضات ولا قوانين واضحة لإعطاء الأولوية لاستقرار الأسعار، وحماية استقلالها. ولذا، كثيراً ما تعرضت لضغوط من جانب السياسيين لحملهم على خفض أسعار الفائدة.

لقد تضرر الجميع من ارتفاع معدلات التضخم والازدهار والكساد على حد سواء، وخاصة الأشخاص الذين يعيشون على دخل ثابت وشهدوا تآكل مدخراتهم الحقيقية. ولم يتحقق النجاح الفعلي في خفض التضخم إلا في منتصف الثمانينات عندما حصلت البنوك المركزية على الدعم السياسي لمحاربته بقوة.

وبناء على ما سبق، لطالما أظهرت الأبحاث المستفيضة لصندوق النقد الدولي الأهمية الحاسمة لاستقلال البنوك المركزية. وفي إحداها، التي نظرت في العشرات من البنوك المركزية في الفترة من 2007 إلى 2021، حصلت تلك المؤسسات على درجات استقلالية قوية كانت أكثر نجاحاً في السيطرة على توقعات التضخم لدى الناس، مما ساعد على إبقائه منخفضاً.

وتتناول دراسة أخرى، تتبعت 17 بنكاً مركزياً في أمريكا اللاتينية على مدار مئة عام الماضية، عوامل عدة من بينها: استقلالية صنع القرار، ووضوح التفويض، وما إذا كان من الممكن إجبار هذه البنوك على إقراض الحكومة. ووجدت أيضاً أن قدراً أكبر من الاستقلال كان مرتبطاً بنتائج تضخم أفضل بكثير. والخلاصة واضحة: استقلال البنك المركزي مهم لتحقيق استقرار أسعار الفائدة، والنمو الثابت طويل الأجل.

ولكن من أجل ممارسة سلطة هائلة في المجتمعات الديمقراطية، فإن الثقة أمر أساسي. وعلى البنوك المركزية محاولة اكتسابها كل يوم من خلال الحوكمة القوية، والشفافية، والمساءلة، والوفاء بالمسؤوليات. كما تساعد الإدارة القوية على ضمان إمكانية التنبؤ بالسياسة النقدية الرامية إلى تحقيق الأهداف الطويلة الأجل، ويبدأ الأمر بتفويض تشريعي واضح يحدد استقرار الأسعار كهدف رئيسي.

كما أن الحكم القوي والاستقلال يعني أن محافظي البنوك المركزية يجب أن يسيطروا على ميزانياتهم، وألا يتعرض موظفوهم للفصل بسهولة بناءً على آرائهم السياسية أو الإجراءات المتخذة ضمن التفويض القانوني. في المقابل، يجب أن يخضع الموظفون للمساءلة، وأن يتحلوا بالشفافية. وعليهم أن يثبتوا بانتظام سعيهم إلى تعزيز الأهداف المنصوص عليها تشريعياً، سواء في تقارير مفصلة أو من خلال الشهادة أمام المشرعين.

ويساعد سن سياسات مالية حكيمة تحافظ على استدامة الديون على الحد من مخاطر «الهيمنة المالية»، أي الضغط على البنك المركزي لتقديم تمويل منخفض التكلفة للحكومة، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تأجيج التضخم. كما توفر الحصافة المالية مساحة أكبر في الميزانية لدعم الاقتصاد عند الحاجة، ما يعزز الاستقرار الاقتصادي.

ومن المسؤوليات الحكومية الأخرى التي غالباً ما يتم تقاسمها مع البنوك المركزية، الحفاظ على نظام مالي قوي وجيد التنظيم. إذ يفيد الاستقرار المالي الاقتصاد بأكمله ويقلل من خطر تردد البنك المركزي في رفع أسعار الفائدة خوفاً من التسبب في انهيار مالي.

عندما تلعب كل من البنوك المركزية والحكومات أدوارها بالشكل المطلوب، نشهد سيطرة أفضل على التضخم، ونتائج واضحة في النمو وتشغيل العمالة، وانخفاض المخاطر على الاستقرار المالي. وصندوق النقد الدولي موجود هنا لمساعدة صناع السياسات على مواجهة هذه التحديات. فنحن ندعم بقوة استقلال البنوك المركزية، ونقدم المساعدة الفنية المخصصة للأعضاء الذين يعملون على تحسين الحوكمة والأطر القانونية.

لقد جعلنا الاستقلالية ركيزة واضحة في بعض برامج التمويل التي يدعمها الصندوق، ونتفق مع الأعضاء على الإجراءات اللازمة لقياسها وتحقيقها. ولتعزيز هذا العمل، قدمنا طريقة جديدة لقياس الاستقلال استناداً إلى الجوانب الأكثر أهمية. ولزيادة المساءلة، طورنا قانوناً للشفافية يساعد البنوك المركزية على تقييم ممارساتها وتحسينها.

ومن خلال العمل معاً، محافظو البنوك المركزية وقادة الحكومة والمجالس التشريعية والشعب، يمكننا دعم هذه البنوك في معركتها اليوم ضد التضخم وتعزيز الاستقرار الاقتصادي والنمو لسنوات قادمة. وهذا سيفيد الجميع، المتقاعد الذي يعيش على دخل ثابت؛ ورائدة الأعمال الصغيرة التي تحاول بناء مشروعها التجاري؛ وكل مجتمع يمكن أن يواجه اضطرابات عندما يخرج التضخم عن السيطرة.

* مدير عام صندوق النقد الدولي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4bd5vzkk

عن الكاتب

مدير عام صندوق النقد الدولي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"