توطين الإدارة لتعزيز الثروات

21:50 مساء
قراءة 4 دقائق

روجر روحانا*

تُعد إدارة الثروات قطاعاً مالياً استراتيجياً وتشكل قاعدة راسخة لسيادة الدولة وازدهارها. فمن خلال توطين إدارة الثروات، تتمكن الدول من حماية أموال الأفراد والمؤسسات من تقلبات الأسواق العالمية، وتستفيد من العوائد المجزية والوظائف ذات الرواتب المرتفعة التي يوفرها هذا القطاع، وتوجّه المزيد من رؤوس الأموال نحو تحقيق النمو الاقتصادي المحلي. تُشير آخر الدراسات إلى أنّ دول مجلس التعاون الخليجي تمتلك فرصاً هائلة في مجال إدارة الثروات، حيث تُقدّر الأصول المالية الشخصية العالية القيمة بنحو 5 تريليونات دولار أي ما يعادل 7% من الثروة المالية الشخصية العالمية. ومع ذلك فإن 70% من هذه الأصول تتم إدارتها خارج المنطقة، ما يُمثل فجوة كبيرة يجب العمل على سدّها. إذ يؤكد هذا الرقم، الذي يعادل ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي البالغ 25%، على الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في الاستراتيجيات المتبعة لتوطين قدرات إدارة الثروات. وعلى ضوء ما سبق، يُصبح اعتماد نهج مدروس لتعزيز إدارة الثروات محليًا ضرورة ملحة وليس مجرد خيار بالنسبة للاقتصادات المتطلعة للمستقبل.

يمتاز نمط إدارة الثروات في دول مجلس التعاون الخليجي بخصائص فريدة تُميّزه عن باقي أنحاء العالم. ففي حين تُعدّ المدن المالية العالمية مثل جنيف ولندن ونيويورك مراكز رئيسية لإدارة الثروات، مع سيطرة المؤسسات غير الخليجية على الجزء الأكبر من هذه الأصول، يُظهر المشهد المالي المحلي اتجاهات فريدة تستحقّ التّأمل. ولعل أبرز هذه الاتجاهات النسبة العالية للأصول المحتفظ بها بشكل نقدي أو ما يعادله. حيث تُشكّل هذه الأصول 50% من محافظ الاستثمار الفردية في دول مجلس التعاون الخليجي، وهي نسبة أعلى بكثير من تلك الموجودة في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث تقل عن 30%، وهي ظاهرة تعكس ضعف الإقبال على الاستثمار المحلي. وبالإضافة إلى ذلك، تُعد قلة الاعتماد على استشارات المستشارين الماليين مشكلة رئيسية أخرى، حيث تُدار أكثر من 75% من الأوراق المالية القابلة للاستثمار محليًا في دول مجلس التعاون الخليجي من خلال «ترتيبات التنفيذ فقط»، وذلك على النقيض من الأسواق الأخرى مثل أوروبا التي تعتمد بشكل كبير على الاستشارات، حيث تقل نسبة ترتيبات «التنفيذ فقط» عن نصف الأصول المخصصة.

يسلّط الوضع الحالي الضوء على الفرص الضائعة لإدارة الثروات محليًا، فسيطرة البنوك الدولية على المشهد المالي تاريخيًا، مع محدودية الخيارات المتاحة للمستثمرين المحليين، أدت إلى نموذج الدخول والخروج حيث يتمّ توليد الثروة محليًا وإدارتها في مكان آخر. وتُظهر الملاحظات التي تم استخلاصها من مئات المقابلات التي أجريت مع اللاعبين والمستثمرين الإقليميين التحديات التي يواجهها هذا القطاع الإقليمي، بما في ذلك التجارب الرقمية غير الكفوءة، والمشورة التي لا ترتقي بجودتها إلى المعايير العالمية، والوصول المحدود إلى مجموعات متنوعة من المنتجات، فضلًا عن الثقافة السائدة القائمة على المبيعات بدلاً من الثقافة التي تركز على المشورة. ولكن، على الرغم من هذه التحديات، تبرز اتجاهات إيجابية تشير إلى تحول كبير في هذا القطاع، فقد أبدى 70% من المستثمرين تفضيلهم المؤسسات المحلية لإدارة ثرواتهم، ما يُشكل حافزًا لإحداث تحول محوري. هذا ويتطلع اللاعبون الإقليميون بأمل كبير لسد هذه الفجوات وتعزيز القدرة التنافسية لعروضهم. وتركز الغالبية العظمى من مجالس إدارات البنوك والرؤساء التنفيذيين الذين التقيت بهم في جميع أنحاء المنطقة على إدارة الثروات كجزء أساسي من اهتماماتهم الاستراتيجية، حيث يشجّع هذا الاتجاه المتقدّم على تنشيط قطاع إدارة الثروات في دول مجلس التعاون الخليجي، بهدف تثبيت المزيد من الثروات محليًا وإرساء مشهد مالي أكثر تطورًا يرتكز على المستثمرين بشكل أساسي.

يُحقّق تطوير منظومة متكاملة لإدارة الثروات في دول مجلس التعاون الخليجي فوائد عديدة لأصحاب المصلحة، بدءًا من الأفراد ذوي الثروات العالية والشركات العائلية وصولًا إلى قطاع الأثرياء الأوسع، حيث تهدف هذه المنظومة بشكل أساسي إلى تعزيز الرابط بين أصحاب المصلحة والمنطقة بشكل أكبر. ومع استقرارها الجيوسياسي، وتنوع أصولها، ومرونة أعمالها، وأطرها التنظيمية القوية، تتمتع دول مجلس التعاون الخليجي بمكانة جيدة لتطوير منظومة إدارة ثروات تخدم الاحتياجات الإقليمية والعالمية. ويُعتبر التعاون بين اللاعبين الرئيسيين في هذا القطاع، بما في ذلك الجهات التنظيمية والبنوك ومديرو الأصول وشركات التكنولوجيا المالية، أمرًا حيويًا لتعزيز النمو والابتكار.

ويتطلب بناء منظومة متكاملة لإدارة الثروات في دول مجلس التعاون الخليجي اتخاذ خطوات استراتيجية تشمل تنمية بيئة تنظيمية ديناميكية واحتضان التكنولوجيا وابتكار منتجات استثمارية متنوعة وتجهيزها وتوزيعها بحيث تستجيب للاحتياجات الإقليمية وتشجّع على الاستثمار في هذا القطاع. بالإضافة إلى ذلك يعزز بذل الجهود في هذا الإطار مكانة مجلس التعاون الخليجي كمركز رائد لإدارة الثروات، ما يضمن الإدارة الفعالة للثروة المتولدة محليًا والاحتفاظ بها واجتذاب الأصول العالمية.

يتعين على البنوك الارتقاء بخدماتها المقدمة في مجال إدارة الثروات، وذلك من خلال الاستثمار في التكنولوجيا والأدوات والكوادر البشرية المؤهلة التي تساهم في تحسين تجربة العملاء وتقديم حلول إدارة ثروات بمستوى عالمي. ويجب على شركات إدارة الأصول أن تعمل على تطوير منتجات استثمارية تلبي احتياجات السوق المتغيرة، والجمع بين فرص الاستثمار العالمية والإقليمية. كما ينبغي على شركات التكنولوجيا المالية أن تقود دفة الابتكار وتحل المشكلات المحددة التي تواجهها سلسلة القيمة.

كذلك يجب أن تستثمر مصادر رأس المال الخاص والعام بجرأة في هذا القطاع، مع إدراك إمكاناته لتحقيق عوائد كبيرة وفوائد اقتصادية أوسع. إذ تؤدي مساهمة اللاعبين الدوليين في هذا القطاع إلى إثراء السوق المحلية من خلال استقطاب أفضل الممارسات والابتكارات العالمية. ومن شأن هذه الإجراءات مجتمعة أن تعزّز مكانة إدارة الثروات العالمية لدول مجلس التعاون الخليجي وأن تدعم الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الأوسع لهذه الدول.

تُظهر هذه الفوائد بشكل واضح ضرورة توطين إدارة الثروات في دول مجلس التعاون الخليجي. فالأمر لا يتعلق فقط بحماية الثروات وتنميتها، بل أيضًا بتعزيز السيادة الاقتصادية وتمكين المستقبل المالي للمنطقة. لطالما كانت الثروة، وسوف تبقى، إحدى أهمّ وسائل التمويل العالمية، حيث إنها تتيح للمستثمرين فرصًا عالمية واعدة. وبالتالي يُمثّل التحول المحلي خطوة أساسية لضمان تقارب محرك الثروة من المستثمرين وتعزيز الاستقلالية المالية في المنطقة وضمان مستقبل مزدهر للمجتمعات في دول مجلس التعاون الخليجي.

*الرئيس التنفيذي لشركة «الفيا»

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdev747y

عن الكاتب

الرئيس التنفيذي لشركة «الفيا»

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"