هل بدت لك فكرة الترميم وإعادة التصميم في التراث، ضرباً من الأوهام الواهية؟ لا تتسرّع. في ميراثنا الإبداعي، رائعة لا مثيل لها في عالم الآداب عالميّاً، هي «رسالة الغفران» لأبي العلاء. العرب، للأسف، هم الأقل حظّاً في الحظوة بهذه التحفة التي هي متحف روائع. المفارقة فارقة، فالعربي غير قادر على قراءتها بنصها العربي، لمُغلقات لغتها، أمّا غير العرب، إذا حدثت معجزة نقلها إلى ألسنتهم، فسوف تكون قراءتها أيسر عليهم ألف مرّة، من استيعاب العربي لها في النص العربي، لاستحالة وجود مترجمين يملكون اللغات المنقول إليها، امتلاك المعرّي لعجائب العربية وغرائبها. ما السبيل إلى إخراج هذا الأثر الفريد من ظلام العزلة التاريخية وظلمها؟ لقد قرّر المعرّي تحطيم أيّ رقم قياسي في صعوبة القراءة. صارت النخبة هي الحدّ الأدنى، فهل يستغني العرب عن أعلى ذروة بلغها الأدب العربي شكلاً ومضموناً؟
كان القلم قد اقترح فكرة إعادة تصميم «رسالة الغفران» وإخراجها على طريقة والت ديزني. هذا ينطبق على «رسالة الصاهل والشاحج». هل ثمة إبداع فوق إجراء حوار فيه حتى الجغرافيا السياسية، قبل ألف سنة، بين حصان وبغل؟ أيّ هدايا أنفسُ من رائعتي المعرّي، إلى أجيال اليوم والغد؟ هذا رأسمال ثقافي عظيم لا يعرف العرب كيف يستثمرونه. كذلك إعادة التصميم والإخراج (قل «ريميك») في «رسائل إخوان الصفا». وفي المكتبة العربية بدائع أخرى ليس «حيّ بن يقظان» آخرها.
الآن، المعضلة الكأداء، مسألة الترميم. تردّد القلم قبل اختيار الكلمة فلها وجوه سلبية، كالإيحاء بصورة أنف أبي الهول، أو أضرار الحريق في كنيسة نوتردام في باريس، أو ترميم المخطوطات عند اهتراء أجزاء منها. لكن، قد لا يكون كذباً صريحاً على التاريخ، أن نصفيّ الشعر الجاهلي وأشعار القرون الإسلامية الخمسة الأولى من رواسب النزعات الجاهلية، ونستخلص منها منظومة قيم، جمالية وفكرية وإنسانية، في مجالات حيوية شتّى.
يجب التفكير باستمرار، في المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية، في القضايا المصيرية: ما هو الغذاء الأدبي الثقافي الذي نغذّي به التلاميذ والطلاب، ونزوّد به القادمين؟ الفحص الشامل ضروري بانتظام. كذلك يحتاج التصوف الإسلامي إلى ترميم، فقد علاه غبار كثير وصدأ، جرّاء الشعوذات والتشويه وسوء الفهم. كم من سنة ضوئية تفصل الحفلات المحسوبة على التصوف، عن نظرية «الإنسان الكامل» لدى ابن عربي؟ هو ذا الترميم.
لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: الخيال أهمّ قاعدة وركيزة لإطلاق المشاريع الثقافية الكبرى.
