عبد الإله بلقزيز
منذ طوت الليبرالية حقبتها الاجتماعية، في العهد الكينزي، ودخلت طورها المتوحش في ثمانينات القرن الماضي (العهد الريغاني - التاتشري)، ومنذ فتح هذا الانقلاب فيها الباب أمام ميلاد عهد العولمة، أَطلت على العالم مقاربة سياسية لمنظومة الحقوق شديدة الاختلال، بحيث سلّطت ضوء الاهتمام على جزئها دون كلها وعلى بعضها دون أكثرها، مختارة أن توحي بأن الحقوق التي تتناولها بالدفاع هي الأعلى (وقد تكون الأوحدَ) بين الحقوق والأوسع، وبأن الذين يعانون فقدانها هم الكثرة الكاثرة من الناس في العالم. إنها المقاربة التي تنتقي من كل الحقوق نوعاً بعينه لا يعنيها سواه، هو حقوق الإنسان.
مبنى فكرة حقوق الإنسان، التي يحملها الخطاب الليبرالي العولمة ويدافع عنها، إنما هو على فرضية مدحوضة تقول إنها وحدها الحقوق العابرة لكل الأوطان، الدول، المجتمعات، لأن الضحية فيها (المهدورة حقوقه) هو الإنسان، وهذا مجرد من كل تعيين سياسي أو قومي أو ديني أو جغرافي... إلخ.
وبالمعنى هذا يكون إيحاءُ الخطاب بأن حقوق هذا الإنسان مشترك إنساني وكوني مجاله العالم كله، خلافاً لحقوق المواطن أو لحقوق الكادح أو لحقوق طبقة أو شعب، حيث تنحد بحدود المجتمع والدولة اللذين إليهما تنتمي هذه القوى المهضومة حقوقها، قلنا إنها فرضية مدحوضة لأن الواقع الموضوعي يكذبها، ولأن من يقيمون عليها سياسة واستراتيجيات عمل تنهض أفعالهم دليلاً على بطلانها، على الرغم من محاولاتهم ابتناء عمرانها بأدوات قانونية فعالة، وإرساء القول بها على مبادئ إنسانوية.
أما الواقع الذي يكذِّبها ويدحض مشروعية العمل بها فهو عينه السياسات الغربية المُطبقة في مجال حقوق الإنسان، التي تنتقي من العالم عوالم بعينها ميداناً لمدافعة الحقوق فيه دون آخر.
ما عرفنا دولة من دول الغرب الرأسمالي تتهم أخرى، من داخل الدائرة نفسها، بأنها تنتهك حقوق الإنسان حتى وإن كان الانتهاك صارخاً وبيّناً وفظيعاً، بحيث استدعى تنديد المنظمات الحقوقية الدولية، نظير ذلك الانتهاك السافر الذي كان في فرنسا، مثلاً، أثناء قمع حركة الاحتجاج الاجتماعي التي أطلقتها تظاهرات «السترات الصفر» (2018)، أو الذي كان في الولايات المتحدة خلال القمع الوحشي لانتفاضة المواطنين السود احتجاجاً على قتل جورج فلويد من طرف شرطي وعلى عنصرية النظام الأمريكي وشرطته 2020، أو نظير ذلك الذي يحصل، اليوم 2024، في شكلِ قمع منظم لانتفاضة الطلاب في عشرات الجامعات الأمريكية تضامناً مع الشعب الفلسطيني وإدانة للجرائم التي تقترفها دولة الاحتلال يومياً في غزة وغيرها، وقسْ على ذلك من أمثلة.
لا يتراشق الغربيون بينهم بتهم اقتراف انتهاكات لحقوق الإنسان ليس من باب تستر الدولة الواحدة منها على أخواتها في مجتمعاتهم وعلى ما ترتكبه من جسيم انتهاكات حقوق أقسام من شعوبها، بل من باب يقين لديهم راسخ في لا شعورهم الثقافي بأن بلدان الغرب وحدها «موطن الإنسان»، وأنها - لذلك السبب - منزَّهة عن إتيانِ أفعال العدوان عليه، وأن مثل ذلك العدوان يمكن أن يقع في أي مكان في الأرض إلا في دول الغرب التي تنعم بالليبرالية وحرياتها.
فضاء الاعتداء على حقوق الإنسان، في الخطاب النيوليبرالي الغربي، يقع خارج الغرب، إذن، أي في أي مكان لا تستوطنه العقيدة الليبرالية. كان ذلك الفضاء في الماضي القريب (بين نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب الباردة) هو الاتحاد السوڤييتي ومنظومته «الاشتراكية» الأوروبية الشرقية (سابقاً)، والصين الشعبية وكوبا وڤيتنام وكوريا الشمالية، ثم أصبح، اليوم، بلدان الجنوب خاصة بلدان الوطن العربي والعالم الإسلامي، ولكن من غير أن يتغير شيء كبير في نظرة الغرب إلى أعداء الماضي القريب (روسيا، الصين، كوبا، كوريا الشمالية).
لا فرق، في عقيدة الغرب الليبرالية، بين الشيوعية والإسلام وفكرة الاستقلال الوطني، فهي جميعها - عنده - تنويعات لعدو واحد. هكذا جرَّد الغرب لمواجهة هذا العدو فكرة حقوق الإنسان متوسّلاً إياها سلاحاً للطعن عليه والتحريض ضده: مجتمعات وأمماً وشعوباً ودولاً، ومتخذاً إياها معياراً أوحد للمشروعية وللاستفادة من الموارد المادية التي تتيحها برامج المنظمات الدولية ومؤسساتها.
لا نبغي القول إن بلدان الجنوب والشرق خلوٌ من ظاهرة انتهاك حقوق الإنسان، بل هي تشهد على ذلك نظير بلدان الغرب (وإن كان الأمر فيه يجري بدرجة أقل أو بفنية في الأداء أعلى وأقْدر على طمس البصمات مما في بلدان العالم الأخرى)، والحقوق التي تُنتهك ليست حقوق إنسان مجرد، كما يوحي بذلك المفهوم النيوليبرالي للإنسان، بل حقوق المواطن.
ليستِ المسألة في أن هناك حقوقاً مدنية وسياسية، جماعية وفردية، وطنية وقومية، تُنتهك هنا وهناك، وأن الفارق فيها بين الغرب وغيرِه فارق في الدرجة (درجة الانتهاك ودرجة الإفصاح عنه)، إنّما المسألة في أن قضية حقوق الإنسان وقع الاستيلاء عليها من قبل قوى دولية متنفذة تراءت لها الفائدة الجزيلة من تسخيرها في صراعها ضد أعدائها في العالم. هكذا حولتها من فكرة إنسانية نبيلة إلى إيديولوجيا سياسية مندرجة في مشروع كوني للسيطرة.
وفي نطاق استخدامه هذه الإيديولوجيا، أَنجز الغرب عملية واحدة مزدوجة الأبعاد والنتائج: تلميع صورته وخلع «النورانية» عليها، وتشويه صورة غيره وشيطنة ذلك الغير.