يحيى زكي
في حقبة التسعينات من القرن الماضي هيمنت على ساحتنا الفكرية أطروحة المفكر الراحل محمد عابد الجابري حول العقل العربي. كانت الأطروحة تحلل مكامن الضعف في هذا العقل، كما تشكل تاريخياً، وكما أسهمت في تكوينه عوامل لغوية وبيئة جغرافية وأحداث تاريخية، أثارت الأطروحة الكثير من الجدل سواء من خلال الحوار المباشر، مثل حوار الجابري مع المفكر حسن حنفي على مدار 7 حلقات نشرت في مجلة «اليوم السابع»، التي كانت تصدر في باريس، أو ما قام به جورج طرابيشي من تفنيد مفاصل أفكار الجابري في كتابه «نقد نقد العقل العربي».
قبل ذلك وفي ثلاثينات القرن الماضي أيضاً، طرح التنويري أحمد أمين مسألة العقل العربي في موسوعته حول تاريخ الإسلام «فجر وضحى وظهر الإسلام»، أيضاً من خلال رصد ملامح هذا العقل، كما تشكل في التاريخ، وبين التاريخين، أمين والجابري، وظف الكثيرون مفهوم العقل العربي، وبرغم رفض البعض لهذا المصطلح، فالعقل كوني لا يقبل التجنيس.
إلا أن الملاحظ على مبتكري المفهوم ونقادهم أنهم كانوا يدورون في فلك الماضي، في مدار بدايات تشكل هذا العقل وما أثر في تكوينه وما أنتجه بعد ذلك، وحتى في إطار هذا الماضي لم يقم أحدهم بدراسة توضح موقع هذا العقل في التاريخ آنذاك، فعقل عربي يستدعي عدداً لا ينتهي من العقول الأخرى، أما ما سكت عنه الجميع فهو كيف يتعاطى هذا العقل مع قضايا العصر؟، وهل يظل عربياً، كما هو إذا اشتبك مع هذه القضايا؟.
كان مصطلح العقل العربي، كما هو عند أمين والجابري وآخرين، يختزل رؤية عربية ماضوية للعالم، يتشابك فيها المعرفي بالسياسي بالأخلاقي بالاجتماعي، كان في الحقيقة بحثاً محموماً عن أسباب تراجع العرب والمسلمين عن ركب الحضارة، وكان العقل مفردة سحرية خلابة ومدهشة، إذا امتلكنا مفاتيحه فبإمكاننا اللحاق مرة أخرى بالبلدان المتقدمة، ولكن في وسط كل هذا الزخم لم يقارب أحدهم قضايا العصر الملحة ولم يبحث في أدوات ومفاصل المعرفة الحديثة، ولم يبحثوا متغيرات زمننا وبيئتنا، ظل العقل محدداً بقضايا تصارع عليها الجابري وطرابيشي في آلاف الصفحات، صدر كتاب الجابري في أربعة أجزاء، ورد طرابيشي أيضاً بدوره في أربعة أجزاء، وفي الخلفية هناك اغتراب عن العصر وهروب من سؤال ما الذي يمكنه «العقل العربي» أن يقدمه للبشرية الآن؟.
في الراهن لم يعد هناك من يفكر في العقل، سواء في تشكله الماضوي أو حتى قدرته على اقتحام المستقبل، برغم أننا، ولظروف عدة، أحوج ما نكون الآن لأطروحات حول مفردة العقل، أطروحات تتعلم من الآخرين ولكن لا تتقيد برؤيتهم، فالماضي انتهى، وما يطرحه العالم كل يوم من أفكار متسارعة ولاهثة أكبر وأكثر زخماً من ترف الانخراط في البحث عن الأسباب والجذور، على أطروحة جديدة حول العقل أن تلتحق بالعالم وأن تغامر من أجل المستقبل انطلاقاً من فكرة التنوير الخالدة والمتمثلة في أن العقل إنساني وكوني، يتساوى فيه جميع البشر.