عبد الإله بلقزيز
أنضج النّظام الرّأسمالي والثّورة الصّناعيّة، في القرن الثّامن عشر، شروط توسعة مساحة الحقوق التي تكفلها الدّولة الحديثة، بحيث جعلها في دائرة الإمكان. ومنذ ذلك الحين وحتّى يوم النّاس هذا، باتت حقوق الجماعات الاجتماعيّة - من طبقاتٍ وفئات - ملحوظة ومشمولة بالقوانين التي تُقرِّها وتحميها بحسبانها جزءاً من حقوق المواطنة. أتى ذلك يمثّل منعطفاً كبيراً في مسار منظومة الحقوق خرج بها - بدءاً من منتصف القرن التّاسع عشر- من حَيِّزيْن ظلّا يمثّلان نطاقها الضّيّق في تجربة الدّولة الحديثة إلى آخريْن صارت فيهما سعة تلك الحقوق أرْحَبَ ومضمونُها أدنى إلى العدالة الاجتماعيّة. أمّا الحيِّزان المقصودان فالحيِّز الفرديّ والحيّز المساواتيّ القانونيّ اللّذان وقع تَخَطّيهما بإقرار حقوق الطّبقات والفئات الاجتماعيّة.
من النّافل القولُ إنّ الحقّ الذي كان ملحوظاً في الدّولة الوطنيّة، حين قيامها على قواعد اللّيبراليّة التي أرستها إيديولوجيا الطّبقة الجديدة الصّاعدة إبّانئذٍ (البرجوازيّة)، كان حقّ الفرد الذي هو الوحدة الاجتماعيّة الرّئيس التي تُسَنُّ لها القوانين وتُخاطِبُها القوانين.
في مقابل الدّولة والسّلطة، في الهندسة السّياسيّة الحديثة، ينتصب المجتمع المتكوّن - بقوّة أحكام النّظام القانونيّ - من أفراد مستقلّين عن بعضهم وعن الرّوابط الجمْعانيّة التّقليديّة التي كانوا مشدودين إليها وبها. لم يكن مجتمع المصالح الخاصة، بعبارة هيغل (أي المجتمع المدنيّ الوسيط بين الدّولة والفرد)، قد قام قبل الثّورة الصّناعيّة وميلاد المصالح الفئويّة، في القرن الثّامن عشر، لذلك انصرف معنى الحقوق إلى إجابة مطالب مَن هُم أعضاءٌ في الدّولة (الأفراد)، بل بلغتِ الإجابةُ تلك ذراها - في التّطبيق - مع أحكام الدّستور الأمريكيّ ومبادئ الثّورة الفرنسيّة التي أقرّت مبدأ المساواة الكاملة في الحقوق السّياسيّة اللّيبراليّة مدشِّنةً عهدَ انتقالةٍ حاسمة إلى منظومة المواطَنة.
مع الثّورة الصّناعيّة وتوسُّع رقعة سيطرة علاقات الإنتاج الرّأسماليّة في البنى الاجتماعيّة لبلدان أوروبا الغربيّة وأمريكا الشّماليّة، نشأت طبقاتٌ اجتماعيّة جديدة - مثل الطّبقة العاملة والطّبقة الوسطى-، وقاد التّبنْيُن الاجتماعيّ الجديد إلى نشوء فئاتٍ جديدة مشدودة إلى روابط العمل والإنتاج والمهن وتولّدت من ذلك، بالتّالي، مصالح لا تنتمي لا إلى المصالح الفرديّة الخاصّة ولا إلى المصلحة العامّة، بل هي أقرب ما تكون إلى مصالح جماعات متضامنة: مصالح طبقيّة ومصالح فئويّة.
ثمّ ما لبثت أطرٌ ومؤسّسات اجتماعيّة مطلبيّة أن نشأت من أجل التّعبير عن هاتيك المصالح الجديدة، وتنظيم كفاحات قُواها - من طبقاتٍ وفئات - من أجل تحصيلها بحسبانها حقوقاً جديدة، وربّما كانت النّقابات والمنظّمات المهنيّة أَظْهَر تلك الأطر والمؤسّسات التي عاد إليها النّهوض بتلك الأدوار الاجتماعيّة المَطلبيّة. منذ ذلك الحين، إذن، ما عادتِ الحقوقُ حقوقَ أفراد فحسب، بل حقوق جماعاتٍ أيضاً (طبقات اجتماعيّة، فئات...) انتزعتْها هذه الأخيرة من الطّبقات الحاكمة بكفاحات عالية الثّمن وصولاً إلى الإقرار القانونيّ الرّسميّ بها.
أتى الانتقالُ هذا (من حقوق الأفراد إلى حقوق الطّبقات والفئات الاجتماعيّة) مقروناً بآخرَ - موازٍ ومتولِّدٍ من الأوّل - هو الانتقال من الحقوق السّياسيّة القانونيّة (المساواة في الخطاب اللّيبراليّ) إلى الحقوق الاجتماعيّة. ما كانت اللّيبراليّةُ البرجوازيّة تعني بالمساواة، حينما رفعتْها في القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، ما صار يعنيه مفهومُها بعد منتصف القرن التّاسع عشر (مع ماركس خاصّةً) من مساواةٍ فعليّة، لا قانونيّة فحسب، في الحقوق الاجتماعيّة- الاقتصاديّة بين المواطنين، وإنّما عنتِ المساواةُ، في خطابها الإيديولوجيّ، مساواةً في الحقوق السّياسيّة- القانونيّة للأفراد بقطع النّظر عمّا بينهم من تفاوُتٍ اجتماعيّ صارخ، إذِ الحقوقُ المرعيّةُ عندها حقوقٌ سياسيّةٌ، حصراً، وليست حقوقاً اجتماعيّة: حقوق في السّياسة لا في الثّروة.
مع ميلاد حقوق الطّبقات وُلِدَت فكرةُ الحقوق الاجتماعيّة، واستتبّ لها الأمرُ، مع الزّمن، فصارت جزءاً لا يتجزّأ من منظومة الحقوق في الدّولة الحديثة: تحديداً بعد الحرب العالميّة الأولى وقيام الثّورة الرّوسيّة، وبعد اضطرار اللّيبراليّة - غِبَّ أزمة العام 1929 -التّكيّف مع ضغوط المسألة الاجتماعيّة (صعود الكينزيّة والانتقال نحو نموذج دولة الرّعاية الاجتماعيّة).
سيفتحُ نشوء حقوق جديدة للجماعات (الطّبقات والفئات) الباب أمام توسُّعٍ هائلٍ في المطالَبات الاجتماعيّة بحقوقٍ أوسع لقوىً اجتماعيّة أكثر تمثّل فئاتٍ ذاتَ أوزان في المجتمعات المعاصرة، مثل النّساء والشّباب. وستبدأ موجةُ الصّعود بعد انتهاء الحرب العالميّة الثّانية مُصيبَةً في حَراكها الاجتماعيّ حظّاً عظيماً من النّجاحات ومن إحراز المكتسبات.
على أنّ ما كان في حكم حقوق الفئات والطّبقات ما لبث أن فاض جمهورُه عن قاعدته الأصل الاجتماعيّة ليصبح شأناً عامّاً لدى السّواد الأعظم من فئات المجتمع. هكذا صارت حقوق الطّبقات المنتِجة (عمّال، فلاّحون...) موضعَ إجماع معظم قوى المجتمع: الفئويّة والنّقابيّة والحزبيّة، وكذلك أصبحت حقوق المرأة والطّفل والشّباب والمضطَهدين والمنفيّين والسّجناء... إلخ، وبات في وسع مطالَبات هذه القوى أن تفرض نفسَها على السّياسة الدّوليّة إلى حدّ إبرام اتّفاقيّات ومعاهدات في شأنها لحماية حقوق تلك الطّبقات. وهكذا، كلّما تعاظَم دور فئاتٍ جديدة وقوىً جديدة من المجتمع المدنيّ زادت، بالتّبِعة، نسبةُ المحصول من حقوقها بالتّناسُب.