يعرف دارسو التّاريخ السّياسي الحديث أنّ البناء النّظريّ لفكرة حقوق الإنسان لم يكن ذهنيّاً، فقط، ولا هو كان افتراضيّاً وبرانيّاً عن الواقع، لدى أولئك الذين شيّدوه من فلاسفة القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، بل كان له ما يسوِّغه من الواقع ويصاحبه.
صحيح أنّ الفلسفة الحديثة بُنِيَتْ كلها على افتراض: افتراض وجود حالةِ ما قبل الدّولة التي أَسموها حالة الطّبيعة، ولكنّ لهذا الافتراض فيها وظيفةً برّرتْهُ هي بيان الفارق بين هذه الحالة الخالية من كلّ سلطة، والمُعَدَّة لكلّ أنواع التّنازع والتّعادي والاقتتال بين المنتمين إلى مجتمع ما قبل الدّولة، من جهة، وحالة الدّولة - من جهةٍ ثانية - حيث السّلطة تردع عدوان النّاس بعضهم عن بعض وتضع القوانين. على أنّ هذا البناء الافتراضيّ في الفلسفة تلك لم يؤثّر في بناء فكرة الدّولة، عند فلاسفة العقد الاجتماعيّ، ولا حوَّلهُ (أعني البناء) إلى مجرّد تشييدٍ ذهنيّ متخَيَّل لدولةٍ لم تَقُم، بل كان للهندسة النّظريّة للدّولة الوطنيّة - على نحو ما تبدّت عليه في الفلسفة الحديثة - ما يشهد لها بالإمكان التّاريخيّ من الواقع القائم آنئذٍ، أعني في تلك الفترة التي سبقت، بقليل، توقيع «معاهدة ويستفاليا» (1648) وانتهاء الحروب الدّينيّة في أوروبا.
تحيلنا الملاحظة السّابقة إلى وقائعَ تاريخيّة كانت تجري في أوروبا منذ النّصف الثّاني من القرن السّادس عشر (قرن النّهضة والإصلاح الدّينيّ) وعلى امتداد القرنين المواليين. كانت خطوط التّمايُز قد شرعت في التّبيّن بين المجال السّياسيّ والمجال الدّينيّ، بين الأمير والكنيسة بعد مديد اختلاطٍ ومماهاةٍ بينهما منذ انهيار الإمبراطوريّة الرّومانيّة واغتنامِ الكنيسة فرصة الفراغ التّنظيميّ المَهُول، الذي تَولّد من ذلك الانهيار، للجمع بين السّلطتين الدّينيّة والسّياسيّة بين يديها، ثمّ ما لبثتِ الحروب الدّينيّة - بين الكاثوليك والبروتستانت - أن زادت من وتيرة استقلال الأمراء والملوك بالمجال السّياسيّ بعد ملاحظة كيف أنّ الدّينيَّ بات يهدِّد بزعزعة استقرار الدّول وربّما بزوالها (حيث انتقلت الحروب الدّينيّة تلك من حروبٍ بين دول إلى حروبٍ داخل الدّول بين الجماعتين الدّينيّتين المتقاتلتيْن فيها).
في هذه الأجواء من تبلوُر الخطوط الفاصلة بين المجال المدنيّ والمجال الرّوحيّ، كانت عمليّة بناء الدّولة الحديثة قد انطلقت في أوروبا، يقودها ملوكٌ متنوِّرون ومصلحون قبل أن تصبح البرجوازيّة الصّاعدة، آنئذ، قادرة على قيادة ذلك التّغيير الذي نجحت، فعلاً، في قيادته بدءاً من القرن الثّامن عشر.
لذلك، ما كان بودان وهوبس ولوك وسبينوزا يتحدّثون عن سيادة مفتَرضة، وبرلمانات مفتَرضَة، ودساتير ذهنيّة، وحريّات متخيَّلة، وحقوق مدنيّة افتراضيّة، وتمثيلٍ سياسيّ مأمول ومرغوب فيه...، بل تحدّثوا عن هذه وغيرها بوصفها إجراءات ووقائع متحقّقة بالتّدريج ومتراكمة، وكان هاجسهم أن يواكبوا هذه السّيرورة السياسيّة بالتّنظير والتّسويغ من جهة، وأن يحاولوا ترشيدها ببيان أمثل السُّبل والنّماذج إلى إقامة الدّولة الوطنيّة من جهة ثانية.
تبيّن، في ما بعد، أنّ عمل فلاسفة السّياسة لم يكن مفيداً لجهة تسويغ نموذج الدّولة الوطنيّة الحديثة فحسب، بل لجهة صوْغ معمار متكامل لها أتتْ هندستُهم النّظريّة للمجتمع السّياسيّ تُفصح عنه، وكان له عظيم الأثر في إلهام قادة الثّورات في أوروبا وأمريكا وفي دفعهم للاستفادة منه في صوْغ مبادئ ثوراتهم وتأسيس دساتيرهم. صار في حكم الثّابت، المؤكَّد بالقرائن، أنّ فيلسوفاً مثل جون لوك كان أكبر ملهم للثّورة والدّستور الأمريكيّيْن، في القرن الثّامن عشر، بأفكاره التي كان لها كبيرُ التّأثير في الثّورة الإنڭليزيّة للعام 1688، وأنّ كثيراً من تلك الأفكار المتعلّقة بالحريّة وسواها من الحقوق المدنيّة تحوّلت إلى موادّ في الدّستور الأمريكيّ وفي دساتير كثير من الولايات الأمريكيّة. الأمرُ نفسُه يُقال عن ڤولتير وجان جاك روسو - خاصّةً الأخير- اللّذيْن أثّرا في جِيل الثّوار الذي صنع ملحمة الثّورة، فلقد كان كتاب روسو في العقد الاجتماعيّ إنجيلاً للثّورة الفرنسيّة طبّقت تعاليمه.
لفكرة الحقوق، إذن، تماماً كما لفكرة الدّولة الوطنيّة الحديثة إجمالاً، أصولٌ نظريّة في الفلسفة السّياسيّة الحديثة تبلورت فيها كليّاتُها ومحدِّداتُها المفهوميّة قبل أن تنتقل منها إلى الفكر السّياسيّ والقانونيّ والدّستوريّ، في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، وتصبح شائعةً في المجال التّداوليّ. هذه حقيقةٌ معرفيّة ترتِّب الحاجةَ إلى الحرص الدّائم على عدم انتزاع مفاهيم الحقوق - ومنها مفهوم حقوق الإنسان - من دوائرها الدّلاليّة الفلسفيّة الأصل في الأحوال التي يقع فيها استخدام تلك المفاهيم خارج التّفكير الفلسفيّ، أعني في الميادين التي يتكثّف فيها حضور هذا المفهوم (السّياسة، القانون، المجتمع المدنيّ).
وأيّاً تكن مآلات مثل هذه الدّعوة إلى احترام الحرمة النّظريّة لمفهوم الحقوق، فإنّ الذي لا مِرْية فيه أنّ انتصاب كيان الدّولة الوطنيّة وإعمارَهُ بمنظومة الحقوق والقوانين الضّامنة ما تحقَّق فقط لأنّ وراءَهُ بناءٌ فكريّ وهندسةٌ نظريّة فلسفيّة (على الرّغم من أهميّتها وتأسيسيّتها غيرِ القابلة للإنكار)، بل لأنّه تهيّأت لذلك القيام شروطٌ جاذبة، وأَرْأَسُ تلك الشّروط وجود حاملٍ اجتماعيّ وسياسيّ وفَّر أَمْكَنَةً لصيرورة المشروع الفكريّ الفلسفيّ لنظامٍ سياسيّ حديث مشروعاً متحقِّقاً في التّاريخ، ولقد كان الحامل ذاك متمثّلاً في الثّورات الإنڭليزيّة والأمريكيّة والفرنسيّة بين نهاية ثمانينات القرن السّابع عشر ونهاية ثمانينات القرن الثّامن عشر.
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا







