عبد الإله بلقزيز
عزّز كيانُ الدّولة الوطنيّة، الذي قام نموذجُه في امتداد نتائج الثّورات الأوروبيّة الكبرى في القرن الثّامن عشر، منظومةَ حقوق الإنسان وعرَّفها -منذ ذلك الحين- بحسبانها حقوق المواطن، هذا الذي أُعيدَ صوْغُ مفهومه، في إطار الفكر السّياسيّ الحديث، ليتلاءم وطبيعةَ النّظام السّياسيّ الحديث ومنظومةِ الحقوق فيه. صحيح أنّ إعلان الثّورة الفرنسيّة، الذي أصدرتْه الجمعيّة التّأسيسيّة في العام 1789، حمل اسم «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، لكنّ منطق الدّولة الوطنيّة يقضي بأنّ الإنسان الذي يتمتّع بالحقوق عندها ليس كائناً مجرّداً، بل هو الذي ينتمي إليها ويَدين لها بالولاء ويتحدّد -في منظومتها القانونيّة- بوصفه مواطناً. آي ذلك أنّ هذه الدّولة الوطنيّة الحديثة (اللّيبراليّة) في الغرب لم تُعامِل إنسان مستعمراتها في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاّتينيّة بمثل ما عاملت به إنسانَها المواطن، حتّى لا نقول إنّه ما كان، على الحقيقة، إنساناً عندها بحيث تحترم إنسانيّته نظير احترامها إنسانيّة مواطنيها. وهذا يدلُّنا على أنّ مفهوم الإنسان في إعلان الثّورة الفرنسيّة، ما كان كونيّاً مفارقاً لحدود التّعيين القوميّ والثّقافيّ والجغرافيّ والسّياديّ - كما تطلّع إلى ذلك إيمانويل كَنت- وإنّما ظلّ دائراً على معنًى قومي وجغرافي - سياسي صرف (إطارُه حدودُ الدّولة الوطنيّة) على نحوٍ تماهى فيه مَعْنَيَا الإنسان والمواطن، فكانت حقوق الإنسان تعني، حكماً، حقوق المواطَنة.
تُرتِّب منظومةُ المواطَنة على المنتمين إلى الدّولة الحديثة - القائمة على سلطة القانون- التزاماتٍ وحقوقاً في الآن نفسه. لا سبيل إلى إسقاط أيٍّ منهما أو تغليب جانبٍ منهما على آخَر، إذِ التّوازن بين الواجب والحقّ واحدٌ من أَظْهر سمات الدّولة الحديثة وممّا يَنْماز به نظامُها عن كلّ نظامٍ سياسيّ تقليديّ سابقٍ أو مُزامِن. ليستِ المواطنةُ انتماءً إلى وطنٍ وولاءً لدولةٍ فحسب، هي -فوق هذا أو نتيجة هذا- التزامٌ من ذلك المنتمي بتقديم واجباتٍ تجاه الجماعة الوطنيّة/القوميّة، التي هو عضوٌ فيها، ممثَّلَةً في الدّولة، وهي واجبات تتدرّج صعوداً من دفْع الضّرائب إلى التّضحيّة بالنّفس (الخدمة العسكريّة والقتال). ليس من دولةٍ ولا حياةٍ عامّة، في فلسفة السّياسة، من دون إعمال مبدأ الواجب، إذ بتقديمه وعدمِ التّملّص منه يوفّر المواطنون الموارد الماديّة التي يقع إنفاقُها على الخِدْمات العامّة، والبنى التّحتيّة، والأمن الاجتماعيّ والدّفاع الوطنيّ...، أي يمكنّون الدّولة -بواسطة ذلك- من أداء أدوارها الاجتماعيّة في التّنميّة والمحافظة على الأمن والاستقرار وصوْن السّلم الاجتماعيّة. ليس الواجب، بهذا المعنى، عبئاً مفروضاً كَرْهاً على كواهل المواطنين أو قيْداً على حقوقهم وحرّياتهم، بل هو مشاركةٌ في تنمية المجتمع الوطنيّ وتعظيم قدرة الدّولة.
على أنّ التزام المواطنين تجاه الدّولة يقابله التزامٌ من الدّولة تجاه مواطنيها، وهو التزام يعبّر عن نفسه من طريق تمتيعها إيّاهم بحقوقٍ تكفُلها لهم قانونيّاً ودستوريّاً وتحميها من الانتهاكات. تتدرّج الحقوق تلك من حقوق مدنيّة (طبيعيّة في التّعريف الكلاسيكيّ) إلى حقوق سياسيّة، وهي -في منطق الدّولة الحديثة- غيرُ قابلةٍ للمساومة عليها أو الانتقاص منها لأنّ في ذلك انتهاكاً لها لا يجوز قانوناً، وهذا ينسحب على حقوقهم جميعِها من غير تمييز: أَكانت حقوقاً فرديّة أو حقوقاً جماعيّة. حقوق المواطنين، في فلسفة السّياسة وفي منطق الدّولة الوطنيّة الحديثة، ليست منّةً من حاكمٍ أو سلطة بل حقوقٌ مستَحَقَّة تترتّب لهؤلاء المواطنين عن أمريْن: عن انتمائهم إلى الدّولة وولائهم لها، وعن التزامهم بتقديم واجباتهم تجاهها. على أنّه ليس المواطنون من يستفيدون من هذه الحقوق، حصراً، وإنّما تشاركهم الدّولةُ في الاستفادة من ثمراتها، إذْ كلّما نَعِمَ المواطنون بتلك الحقوق تَنْعَم الدّولة، بالتّبِعة، بالاستقرار والازدهار. هكذا تتبدّى جدليّة الحقّ والواجب جدليّةً خصبةً ومتوازنة داخل نظام الدّولة الحديثة بحيث لا سبيل إلى إسقاط أيٍّ منهما أو تغليبه على الآخَر لِمَا يُرتِّبانه (الإسقاط والتّغليب) من فادح التّبعات على التّوازن وعلى الدّولة معاً.
من البيّن، في ضوء ما تَقَدّم، أنّ مفهوم الإنسان أُدْرِكَ -في السّياقات الفكريّة والسّياسيّة الغربيّة في ذلك الإبّان- بما هو مرادفٌ لمفهوم المواطن وأنّ المواطن عَنَى تلك العلاقة السّياسيّة التي يُرتّبها الانتماءُ إلى جماعةٍ وطنيّة والولاءُ للدّولة، وتُتَرْجِم نفسها في شكل علاقةِ (أو متلازمة) حقّ/ واجب تتحدّد داخلَها منظومةُ حقوق المواطَنة (الحقوق المدنيّة والسّياسيّة). على أنّ الأهمّ في هذا كلّه أنّ هذه الحقوق التي يتمتّع بها النّاس وتُقِرّها القوانين إنّما هي حقوقٌ إطارُها المرجعيّ الدّولة، إذِ الدّولة مَن يشرِّع تلك الحقوق ويحيطها بالرّعاية والحماية من خلال الضّمانات القانونيّة والدّستوريّة، والدّولة إذْ تفعل ذلك، تمارس وَلايتها السّياسيّة والقانونيّة في نطاقٍ سياديّ صرف، أي ضمن مقتضيات السّيادة الوطنيّة. بعبارة أخرى، ما كان هناك -في عُرْف الدّولة- إنسانٌ فوق الوطن وفوق القانون، عابرٌ للحدود والدّول والتّشريعات على نحو ما سيصير إليه الأمر في ما بعد، أعني في نطاق المفهوم العولميّ الجديد لحقوق الإنسان.
[email protected]