صناعة الوعي ونقدها

00:42 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الإله بلقزيز

تحاول السّرديّات، دائماً، أن تختفيَ وراء أزعومتها المَلُوكَة بأنّها ناطقةٌ بلسان الحقيقة في محاولةٍ منها إلى إخفاء إيديولوجياها أو طابعِها الإيديولوجيّ. ليس من السّهل، دائماَ، العثورُ على الإيديولوجيِّ المحجوب فيها أو الوقوفُ على تَبَدِّياته المتعدّدة، لأنّ لعبةَ الإخفاء والطّمس جيّدةُ الحبكة في البناء الحِكائيّ للسّرديّات، بل يحتاج بيان ذلك الإيديولوجيّ المضمَر إلى جَهْدٍ شاقّ في التّحليل والتّنقيب والحفر العميق قصد الوصول إلى مَخْبَئه السّريّ داخل اللّغة الحاملة وخلْفَها. قد يكون الإيديولوجيُّ فيها كامناً في مسْتَبْدَهاتها ومسلّماتها التي هي، في حقيقة أمرها، قضايا غير بديهيّة ولا هي مسلَّمات، وقد يكون كامناً في حَمْل السّرديّة الوقائع والظّواهرَ - بقوّة التّأويل - على غير ما تعنيه من الدّلالات، وربّما أتى كامناً في عمليّة التّلاعُبات التي قد يقوم بها فعْلُ السّرد بالمعطيات التي يرويها أو يبني عليها الرّواية... إلخ. صورٌ عديدة، لا حصر لها، لكمون الإيديولوجيِّ في السّرديّات واحتياجِ بيانه إلى إعادة تفكيك السّرديّة التي يحايثها.
بين ميْل السّرديّات إلى نسبة محمولها إلى «الحقائق» وجنوحِها، في الوقت عينه، لإضمار مضمونها الإيديولوجيّ أكثرُ من صلة، نشير - في إسراع - إلى اثنتيْن منها تَعْنياننا في هذا السّياق:
أولاهما تعبّر عنها حاجةُ الإيديولوجيا إلى الحقيقة لشرعنة نفسِها بها. صحيح أنّ الحقيقة لم تكن مطلباً أو مسعىً لدى الإيديولوجيا ولا كان الوعيُ الإيديولوجيّ منصرفاً، يوماً، إلى بلوغ حقيقة الموضوع الذي يتناوله (لأنّ المصلحة طِلْبَةُ الإيديولوجيا الوحيدة ومبرِّر وجودها)، ولكنّ غَنَاءَ الإيديولوجيا عن الحقيقة إنّما هو منحصرٌ في الهدف والغاية لا في الوسيلة وما تتيحُه لها من مُتاحات. بيان ذلك أنّ الوعي الإيديولوجيّ كثيراً ما توسّل أدوات المعرفة والعلم لكي يَخْلَع الصّدقيّة والمعقوليّة على نفسه. هكذا أيضاً في السّرديّات (الإيديولوجيّةِ الطّبيعة)، تُدْرِك الأخيرةُ أنّ قوّة الحقيقة تكمَن في أنّها تُقْنِع فينقاد إليها وعيُ النّاس - لهذا السّبب بالذّات - انقياداً أعشى. لذلك، يمكن لسِحْر هذه القدرة الإقناعيّة التي للحقيقة أن يخدم السّرديّة ويصنع لها جاذبيّتها في أوساط متلقّيها ومتداوِليها إنْ أحسنتْ (تلك السّرديّة) توسُّله فزعمت لنفسها أنّها ناطقة بالحقيقة في ما تقولُه وترويه وأَحْكمتْ بناء زعْمها بحيث لا يعتريه ثَلْم.
وثانيهما تتجلّى في أنّ تظهير الحقيقة المدَّعاة في السّرديّات وترسيخَ الاعتقاد بها يكاد أن يكون متوقّفاً على رفع الشّبهة عنها، وهو ما لا سبيل إلى بلوغه إلاّ من طريق طمس المحتوى الإيديولوجيّ لتلك السّرديّات وحجْبه ومنْعه - بالوسائل كافّة- من الإفصاح عن نفسه خشية أن تنفضح بذلك لعبةُ حَمْلِ ما ليس حقيقيّاً على مَحْمل الحقيقة المدّعاة. هذا ما يفسّر لماذا تتوازى العمليّتان وتتزامنان معاً في نظام السّرديّات: التّقنُّع بقناع الحقيقة والإيحاءُ المخادِع بذلك، من وجهٍ، والسّعيُ في حجب المضمون الإيديولوجيّ في ذلك النّظام لئلاّ تتأثّر القدرةُ الإقناعيّة للبناء السّرديّ سلباً من وجْهٍ ثان. هي عينُها اللّعبةُ الإيديولوجيّة المألوفة: لعبة الإخفاء/الإظهار تعيد إنتاج نفسها هنا.
السّرديّات، بهذا المعنى، بنياتٌ قوليّة إيديولوجيّة تتغيّا الإقناع واستمالة وعي المخاطَب وصولاً إلى إخضاعه (الوعي) واستدراجه إلى التّصديق. وهي تسخِّر لهذه الوظيفة أدوات الإقناع جميعاً، بما فيها تلك التي تُبدي فعاليّةً كبيرة في مضمار عمليّة تزييف الوعي، أعني أدوات التّقنيع والتّوريّة والخداع والتّضليل. ومثلما تلجأ إلى الخياليِّ والميثيّ والعجائبيّ لإضفاء الهالة على المضمون الإيديولوجيّ المحمول إلى القارئ/السّامع، في بعضٍ من أحوال بنائها وحبكتها، كذلك تلجأ إلى المنطقيِّ والعقلانيّ والواقعيّ والعلميّ لخلْع التّماسُّك والحُجّيّة العقليّة على خطابها في بعضٍ ثانٍ من أحوال ذلك البناء. تفعل هذا أو ذاك تبعاً لحاجات فِعْل الإقناع وضروراته.
وكثيراً ما تجد السّرديّاتُ نفسَها، في الأثناء، متصادمةً: يقارِع بعضُها بعضاً مقارَعةَ إفحامٍ أو تسفيه، حيث من عُدّة شُغْل السّرديّات أن تتنازع روايةَ الموضوع عينه، وأن يَمتشق كلٌّ منها سلاح الجدل لإبطال روايات السّرديّات المخالِفة. إنّ هذا النّزاع على احتكار السّرديّة هو ما يدفع بعمليّة البناء الإيديولوجيّ للسّرديّات إلى تجويد وسائلها وطرائق عملها وتعظيم الموارد والمرجعيّات التي تمتاح منها قصد تأهيل نفسها بأسباب القوّة والنّفوذ لخوض المنافسة على هدف حيازة احتكار الرّواية.
لا يعنينا من هذه السّرديّات - خاصّةً غير الأدبيّة، أي تلك التي هي من طبيعة تاريخيّة ودينيّة وفلسفيّة وإيديولوجيّة - سوى مُنتهى طوافها: بناءُ الوعي أو صناعتُه وتشكيلُه. إنّها واحدٌ من أهمّ مصانع الوعي الجمْعيّ في كلّ مجتمعٍ وثقافة، وإليها يعود سبب مفعول مَقُولِها في الذّهنيّة العامّة وصيرورة ذلك المَقُول - أو المحتوى المحمول - يقينيّاتٍ إيمانيّةً راسخةً لا تتزحزح وإنْ كان مبْناها على وهْمٍ أو باطل وبما يخدم غرضاً لا علاقة له بالحقيقة. وهكذا، لأنّ السّرديّات شيءٌ من الوعي الزّائف، أو شيء بهذه المثابة، فهي تحتاج إلى نقدٍ وتفكيك يميطان اللّثام عن المزاعم فيها.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"