د.إدريس لكريني
تزايدت حدّة التوتر بين الولايات المتحدة والصين، وبخاصة على المستويين التجاري والتكنولوجي، في أعقاب إقدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على فرض رسوم جمركية على الواردات الصينية بنسبة 145 في المئة، والتي قامت بدورها بفرض رسوم على المنتجات الأمريكية بنسبة 125 في المئة في سياق المعاملة بالمثل، مع فرض قيود على تصدير المعادن الأرضية النادرة، التي تستخدمها الولايات المتحدة في صناعات متطورة كالإلكترونيات والطائرات.
إن الصراع والتنافس بين الولايات المتحدة والصين ليس جديداً، فهو يمتدّ إلى عدة عقود مضت، اتخذ فيها مظاهر عدة، طالت مجالات اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية. وقد تصاعد هذا الصراع مع تسارع النمو الاقتصادي للصين خلال العقدين الأخيرين، وتزايد اهتماماتها بالاستئثار بدور وازن في النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي.
فرغم التعاون الحاصل بين الجانبين على عدّة واجهات، إلا أن الولايات المتحدة لم تُخفِ انزعاجها المتكرر من المكاسب الاستراتيجية التي باتت تحققها الصين، وبخاصة مع إطلاق مبادرتها الموسومة بـ«الحزام والطريق»، والتي تهدف من ورائها إلى ربط الصين بشبكة اقتصادية وتجارية واسعة مع دول العالم. ولذلك قامت الولايات المتحدة بمحاولات حثيثة للتضييق على هذا القطب الصاعد بسبل ملتوية، مع الحرص على توظيف التأثير الصيني في آسيا لتدبير بعض الأزمات والقضايا التي تهمّ مصالحها الخاصة (الولايات المتحدة)، وخصوصاً فيما يتعلق منها بالمساعدة في التخفيف من حدّة الأزمة مع كوريا الشمالية والحدّ من خطورة مشروعها النووي.
ثمّة الكثير من القضايا الخلافية بين الطرفين، وهي تتنوع بين قضايا اقتصادية وتجارية وسياسية وتكنولوجية وأمنية واستراتيجية، إضافة إلى مشكـــلات تتصـل بالأمـــن الإلكترونــي والذكــاء الاصطناعي.
وتبدو قضية استقلال تايوان كإحدى أهم النقاط العالقة بين الطرفين، بالنظر إلى التوجه الأمريكي منذ منتصف القرن الماضي نحو توجيه الدعم الكامل لهذا الانفصال، وخصوصاً بعد قيام الصين الشعبية عام 1949، وهو الأمر الذي يثير قلق الصين، ويشوّش بشكل حقيقي على تطوّر العلاقات بين الطرفين، وتعي الولايات المتحدة حجم القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي ستكتسبها الصين في حال عودة تايوان إلى سيادتها بعد استعادة «هونغ كونغ».
كثيراً ما وظفت الولايات المتحدة المدخل الحقوقي لأجل الضغط على الصين، والمناورة عبر عدد من الملفات المشتركة، كالقضايا الاقتصادية، كما عبّر عن انزعاجها أيضاً من المساعدات العسكرية والتقنية التي تقدّمها الصين لعدد من القوى النووية الصاعدة، رغم توقيعها على الاتفاقية الدولية الخاصة بحظر انتشار الأسلحة النووية؛ وهو ما تعتبره سلوكاً يذكي الصراع العالمي.
كما قامت الولايات المتحدة بعقد اتفاق عسكري مع كل من بريطانيا وأستراليا، يتيح صناعة غواصات تشتغل بالطاقة النووية، ويدعم التعاون العسكري في المحيطين الهادي والهندي، كسبيل للحد من الطموحات الاستراتيجية للصين، وهو ما اعتبرته هذه الأخيرة بمثابة خطوة تجسد «عقلية الحرب الباردة» وتدعم السباق نحو التسلح، وتهدّد السلام في المنطقة.
تتباين آراء الباحثين بصدد قدرة الصين على إزاحة الولايات المتحدة من زعامة النظام الدولي الراهن، بين من يعتبر الأمر جدّياً على اعتبار الإمكانيات البشرية والاقتصادية والعسكرية المتوافرة لهذا القطب، وبين من يعتبر أن هذا الأخير ورغم التقدّم الذي يحرزه في مختلف الميادين، يظل بعيداً كل البعد واقعياً عن مزاحمة الولايات المتحدة على قيادة هذا النظام. ورغم ذلك، تنظر الولايات المتحدة إلى تمدّد الصين بقدر من الحذر والترقب، حيث عبّرت عن رغبتها في دفع هذا القطب الصاعد إلى الاندماج في النظام الدولي الراهن من دون المسّ بأركانه ومقوماته، بما يدعم المكانة الريادية لأمريكا، ويعزّز حضورها الفاعل على الساحة الدولية، غير أن الصين ماضية بكل عزم إلى تعزيز حضورها ومكانتها الاقتصادية والاستراتيجية دولياً.
لقد أصبح تغيّر الموقف الأمريكي من أوروبا منذ الولاية الأولى لترامب يثير الكثير من الأسئلة بصدد مستقبل العلاقات بين الجانبين، وبخاصة مع إصرار الإدارة الأمريكية الجديدة على ترشيد نفقاتها المخصصة لحلف «الناتو»، ودعوة أعضائه إلى تحمّل نصيب أوفر من النفقات المتزايدة في هذا السياق، بالإضافة إلى فرض رسوم جمركية عالية على الحديد والألمنيوم المستورد من أوروبا وكندا، وكذا الترحيب بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم إطلاق ترامب مواقف لا تخلو من استغراب بصدد الحرب الروسية في أوكرانيا خلال الآونة الأخيرة.
وهو ما يدفع إلى القول بأن الولايات المتحدة بدأت تتخلّى بشكل متدرج عن حلفائها التقليديين، وتتحرك شرقاً في إطار التركيز على منافس عنيد؛ بات يتهدد قطبيتها ومصالحها والمضي في تضييق الخناق عليه.
في الوقت الذي تتجه فيه الصين بصورة هادئة نحو المساهمة في بناء نظام دولي متعدد الأقطاب، مستثمرة في ذلك إمكانياتها الاقتصادية والتكنولوجية المتطورة، وعلاقاتها المتوازنة مع عدد من القوى الدولية الكبرى كروسيا والهند والاتحاد الأوربي، تسعى الولايات المتحدة جاهدة إلى الحدّ من تمددها ومن طموحاتها، ما يوحي بإمكانية بروز «حرب باردة» جديدة؛ قد تعيد شبح التسلح إلى الواجهة الدولية من جديد، وتؤثر بالسلب في الجهود الدولية المتصلة بتدبير المخاطر العابرة للحدود.