في مقابل التحليل الاقتصادي والتطوّري للمجتمعات، نشأ اتجاه تحليلي يفسّر الظواهر الاجتماعية انطلاقاً من الثقافة، وفي هذا الاتجاه، تصبح الثقافة العنصر المركزي في تحليل الظواهر الاجتماعية، ما يجعل من مسائل ومشكلات الهوية أساسية لفهم تعقيدات الواقع وأزماته، كأن يُرد سلوك عام اجتماعي إلى العقائد الدينية السائدة، أو إلى البنى الهوياتية، وقد دخل هذا الاتجاه في التحليل الاجتماعي منذ بدايات القرن الماضي، في تحليلات عدد من التنويريّين العرب لأزمات الواقع العربي، خصوصاً في دراسة أسباب التأخر.
لعبت أسباب عدة وراء نمو هذا الاتجاه التحليلي الثقافوي في العالم العربي، من بينها المقارنة بين ثقافة مجتمعات الدول الاستعمارية وبين ثقافة بلادنا المُستعمرة، فأعطي العامل الثقافي دوراً كبيراً في قياس درجة تأخرنا، مقابل تطوّر الدول الاستعمارية الغربية، ونتيجة لهذا التركيز على العامل الثقافي/ الهويّاتي، برز اتجاهان تفسيريان، الأول يقول بأن أسباب تأخر المجتمعات العربية هو نتيجة ركود وتقليدية الثقافة العربية، وعدم قدرتها على ولوج الحداثة، أما الثاني فقال بأن السبب الرئيسي لتأخرنا هو ابتعادنا عن ثقافتنا الأصلية، ومرتكزاتها القيمية، خصوصاً المرتكزات الدينية.
على الرغم من مرور أكثر من قرن على نشوء هذين الاتجاهين التحليليين، فإنهما بقيا فاعلين في التحليل الاجتماعي العربي، بل نما التناقض فيما بينهما، وخرج عن حيّزه الفكري ليصبح هذا التناقض فاعلاً في الاتجاهات السياسية، وسنجد أنه ابتداءً من ثلاثينيات القرن الماضي سيكون للتيار السياسي الذي يتبنى الاتجاه التحليلي الثاني، الذي يقول بأن تأخر مجتمعاتنا العربية سببه الابتعاد عن ثقافتنا الأصلية، مكانة مهمة في الصراعات السياسية في مجمل الدول العربية.
معظم تشكيلات تيار الإسلام السياسي العربي تتبنّى تحليلاً اجتماعياً ينطلق من نقد الحاضر، وتحليل أزماته، كنتيجة للابتعاد عن القيم الثقافية والعقائدية، في الوقت الذي مزجت فيه تيارات سياسية أخرى بين الاتجاهين، لكن بطريقة مختلفة، فالقسم الأبرز من التيار القومي العربي، بنى فلسفته انطلاقاً من ضرورة إعادة إحياء المكانة السياسية والثقافية للعرب التي كانت موجودة في محطات تاريخية عدة، حتى أن حزباً مثل «البعث» استلهم اسمه من عملية إعادة الإحياء هذه، ومزجها بتركيبة «علمية»، وإيديولوجيا اشتراكية.
ولّدت حالة الهيمنة لهذا التحليل الثقافوي للاجتماع السياسي مشكلات جديدة مضافة على التأخر العربي، الذي زعم هذا التحليل الإمساك بأسبابه، وفي مقدمة هذه المشكلات أن هذا التحليل غادر اللحظة التاريخية لولادته، وتحوّل إلى سردية، عوضاً من أن يكون تحليلاً، ففي خضم الصراعات السياسية، أصبحت منتجات التحليل الثقافوي سردية متكاملة متماسكة، وأشبه بعقيدة إيمانية مطلقة، يرفض أصحابها أي تشكيك فيها، مع أنها في نهاية المطاف مجرد سردية لسياق تاريخي، وليست علماً له قوانين محددة.
لكن هيمنة هذا التحليل، لم تكن ممكنة من دون أن تجري عملية استثمار واسعة النطاق لها من قبل الأنظمة السياسية، التي وجدت في الثقافوية إمكانية لتبرير شعاراتها وممارساتها، فقد استخدمت الاتجاهين الثقافويين: الناقد للقيم التقليدية والمتمسك بها بالدرجة ذاتها، فوضعت الأول في سياق المؤامرة الغربية، وجعلته متهماً بهذه الصفة، كما وضعت الثاني في خانة الأصولية، وجعلته متهماً بهذه الصفة، ولجأت في حالات ولحظات تاريخية عديدة لتحويل أي من الاتجاهين إلى عدو، تحمّله أزماتها ومشكلاتها.
في سياق سيرورة تحوّل التحليل الثقافوي إلى سردية، حدثت حالة إعاقة لنمو علم اجتماع سياسي حديث، يدرس البنى الاجتماعية وتفاعلاتها الداخلية والخارجية، ويُسهم في توليد الشروط الموضوعية التي تسمح لتلك البنى بالتطوّر، وتجاوز أزماتها الداخلية، وبقي مفهوم البنية بشكل عام، والاجتماعية بشكل خاص، مفهوماً شبه غائب في التحليل الاجتماعي للواقع العربي، فلا نجد تحليلاً لبنى محددة، وإنما تحليلات عامة، تغيب عنها مسائل أساسية في التحليل الاجتماعي، من مثل الاقتصاد، وأدوات الإنتاج، والتباينات الطبقية، والمؤسسات، والعلاقات التفاوضية في الحيّز المشترك للتفاعل الاجتماعي، وغير ذلك، من المفاهيم المؤسسة لعلم الاجتماع الحديث.
هذا الواقع التحليلي الثقافوي، رافقته مسيرة عقود من أنماط تعليم تستحوذ السرديات على جانبها الاجتماعي، في تغييب للفكر النقدي، محدثة مفارقة لافتة، ففي الوقت الذي شهدت فيه الكثير من مناهج التعليم العربية تطويراً لمناهجها العلمية، بقيت محافظة على المنطق الثقافوي في مناهجها الاجتماعية، ما أحدث حالة انفصال وفصام بين منطقين، يفترض أنهما متكاملان، أي منطق الفكر النقدي في العلوم الاجتماعية، والمنطق العلمي والتجريبي في العلوم الرياضية والميكانيكية والفيزيائية والكيميائية والذرية.
في الأثناء، غابت إلى حد بعيد، العلاقة التي ينبغي لها شرح التقدّم من داخله، وليس عبر سردية محددة تنميطية، فقد ساد وصف الغرب في التحليل الثقافوي العربي بأنه منظومة عقلانية علمانية ديمقراطية.. إلخ. لكن، غابت العلاقة المبنية على فهم الجوانب الاقتصادية والتعليمية والمؤسساتية والسياسية والبيروقراطية والتقنية والقانونية، فهذه الجوانب هي التي تحتوي سيرورة التقدّم، وتكشف عن جوانب إنتاجه وإنتاجيته، وتعكس المفاهيم المؤسسة له، وتفاعل الجانب النظري مع الواقع العملي، بينما تركز الثقافوية على الجانب القيمي، في الوقت الذي تعجز فيه عملياً عن إنتاج قيم تُسهم في التقدّم.
مقالات أخرى للكاتب
قد يعجبك ايضا







