حسام ميرو
مقارنة بعقود سابقة، تطفو على السطح منذ سنوات ظاهرة تضخّم الفقر في العالم العربي، باستثناء دول الخليج، وهذه الظاهرة التي تنطوي على دلالات عدة وأبعاد مختلفة، تكاد تكون شبه غائبة عن الإعلام العربي، على الرغم من أنها واحدة من أهم الظواهر المشتركة بين عدد من الدول العربية، والتي لم تأخذ نصيبها من النقاش السياسي العربي، أو حتى من قبل كبريات المؤسسات العربية، وفي مقدمتها جامعة الدول العربية، التي يفترض أنها واحدة من أهم الفضاءات لنقاش واقتراح الحلول للقضايا العربية المشتركة.
ظاهرة تضخّم الفقر العربي، يمكن متابعتها بيانياً في عمل بعض المؤسسات المرموقة، ومن بينها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا «الإسكوا»، التي توقّعت أن يكون ثلث سكان العالم العربي بين عامي 2024 و2026 ما دون خطّ الفقر، أي نحو 130 مليون نسمة، بحيث يعيش كل فرد منهم بأقل من 2.15 دولار في اليوم، وبالتالي فإن معظم هذه الملايين من البشر يعيشون بأقل من هذا المبلغ، ولا يعني هذا بالضرورة أن هؤلاء من فئة العاطلين عن العمل، إذ إن الموظف الحكومي في بعض الدول العربية يتقاضى راتباً شهرياً حدّه الأقصى بين 80 إلى 100 دولار، وقد يكون مسؤولاً عن إعالة عائلة بأكملها، وهو أمر نشاهده اليوم في السودان واليمن وسوريا.
في سوريا على سبيل المثال لا الحصر، كان متوسط دخل الموظف الحكومي قبل عام 2011 نحو 200 دولار أمريكي، بقدرة شرائية للدولار آنذاك أكثر من الوقت الحالي بمعدل 50% على الأقل، قياساً للزيادة العالمية التي شهدتها أسعار السلع في العالم، وكما هو معروف بأن متوسط الدخل، خصوصاً في القطاع الحكومي، هو انعكاس لأمرين، الأول الميزانية العامة للحكومة، والثاني للناتج القومي الإجمالي، لكنه في البعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي يعكس مستوى الاستقرار الوطني، الذي هو حصيلة المؤشرات العامة.
وإذا كان الفقر هو الظاهرة المعاكسة، أو الحدّ المفاهيمي، لظاهرة الوفرة والازدهار والرفاه، فإنه أولاً وأخيراً هو نتيجة سياق عام، ومكافئ موضوعي لتدهور ممكنات الإنتاج المحلية في أي دولة من دول العالم، وثمة علاقة مباشرة وتبادلية بين الفقر والبطالة، وبهذا الصدد تقول «الإسكوا» إن معدل البطالة في العالم العربي أكثر من 11.5%، وهو من أعلى المعدلات في العالم، بالإضافة إلى البطالة المقنعة، حيث تمتص العديد من المؤسسات الحكومية في العالم العربي قسماً من ظاهرة البطالة، عبر تضخّم الجهاز البيروقراطي للدولة، حيث تنمو ظاهرة ما يسمى «جيش الموظفين» الذي يمثّل زيادة هائلة في عدد من يعملون في مؤسسات حكومية، من دون أن يقدموا إنتاجاً حقيقياً ملموساً، يمكن قياسه في الناتج الإجمالي القومي، بل إن رواتبهم تمتص جزءاً من الموازنة العامة للحكومات، من دون أن يسهموا في أي خدمات عامّة ذات قيمة.
ليست الحروب التي عرفتها بعض دول المنطقة خلال العقد ونصف الماضيين السبب الأبرز والأكبر لظاهرة الفقر، ففي عمق هذه الظاهرة هناك ظاهرة اجتماعية وتنموية أخطر، كونها ظاهرة مؤسسة للفقر وانعدام التنمية، وهي ظاهرة الأمية الأبجدية، وبحسب «الإسكوا» نفسها، يوجد أكثر من 70 مليون أمي في العالم العربي، تشكل الإناث منهم نحو 62%، في الوقت الذي يتجه فيه العالم المتقدم للانتقال إلى عصر الذكاء الاصطناعي، معتمداً على التطوّرات والتحولات الكبيرة والمذهلة في علوم البرمجيات، أي أن مفهوم الأمية شهد تحولاً بين عصر الأمية الأبجدية وبين عصر الأمية المعلوماتية، وهو تحوّل نوعي، ليس فقط من حيث الجوهر، بل من حيث انعكاساته على التطور غير المتكافئ بين البلدان.
تفاقم معدلات ثلاثية الفقر والبطالة والأمية في العالم العربي هو ظاهرة سياسية بامتياز، فإذا كانت إدارة التنمية في المجتمعات هي أحد أهداف السياسة المعاصرة، فإن تضخم مؤشرات هذه الثلاثية هو برهنة عملية على فشل السياسات المتعاقب في الحكومات العربية، على الرغم من أن جميع هذه الحكومات تقريباً، عرفت ما يسمى بوزارات التخطيط، ومؤسسات خاصّة بالتنمية، ومراكز إحصاء وطنية، تقدم تقارير دورية، وعلى الرغم من وجود هذه المؤسسات، إلا أن معالجة هذه الأزمات بقيت تعمل من دون كفاءة، قياساً بالأرقام المتصاعدة لأركان هذه الثلاثية.
في جميع الدول التي عرفت تقدّماً واستقراراً في مؤشرات التنمية، كانت الأولويات السياسية تتركز على البرامج العملية للحكومات، بحيث يكون هناك فهم واضح للأزمات، وبرامج واقعية لتجاوزها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، منحت اليابان المهزومة في الحرب العالمية الثانية أولوية قصوى للتعليم، كي تتمكن من استعادة دورتها الاقتصادية، وقد تمكنت خلال عقد تقريباً من النهوض بالمؤسسات التعليمية، وربطها بالعلوم والتكنولوجيا، ما جعلها تتجاوز كارثة الحرب على المستويات كافة، وأن تصبح واحدة من أهم اقتصادات العالم، وهي اليوم ثالث اقتصاد في العالم، بعد أمريكا والصين، وهذا ما يجعل من الضروري عربياً إعادة تعريف السياسة بوصفها عملية إدارة لعمليات مستمرة من التنمية، وليست فقط أداة ضبط للأزمات الداخلية والخارجية.
[email protected]