عادي
تجربته بدأت في خنادق الحرب العالمية الأولى

جوزيبي أونجاريتي يُنقذ الشعر الإيطالي من الملل

22:49 مساء
قراءة 4 دقائق
1704

يمثل جوزيبي أونجاريتي (10 فبراير 1888 1 يونيو 1970) نقطة تحول في الشعر الإيطالي الحديث، ويمكن القول إنه الأب الشرعي لحركات التجديد هناك، وقد اتهمه بعض النقاد بتكوين مدرسة الغموض والإلغاز، لكن على حد تعبير الراحل الدكتور عبد الغفار مكاوي، فإننا «لا يمكن أن نقول إن شعر أونجاريتي سهل، لكن صعوبته لا تجيز لنا أن نصفه بالغموض».

لأبوين هاجرا إلى الإسكندرية ولد جوزيبي أونجاريتي وعاش مع عائلته هناك، وحين توفي أبوه إثر حادث عمل في شركة قناة السويس البحرية، تكفلت أمه التي كانت تمتلك مخبزاً بتربيته، وفي الإسكندرية تعرف إلى صديق طفولته محمد شهاب وانضما إلى مجموعة من المثقفين، تحلقوا حول الكاتب الإيطالي أنريكو بيا الذي هاجر إلى الإسكندرية أيضاً، واستأجر بيتاً وملحقاً كورشة يعمل فيها بقطع الأخشاب والأحجار، وحوّل البيت إلى منتدى للمثقفين، الذين كانوا يلتقون فيه للحوار وتبادل الأفكار الجديدة.

اكتئاب حاد

غادر شهاب الإسكندرية قاصداً باريس للدراسة عام 1912، وسرعان ما التحق به صديقه أونجاريتي، وجربا معاً تجربة مغادرة الوطن والمنفى، لكن شهاب لم يتمكن من التكيف مع تبعات الإقامة في باريس، ولم يلبث أن وقع تحت سطوة الاكتئاب الحاد، وفي التاسع من سبتمبر عام 1913 توفي شهاب منتحراً، وقد أعدت الباحثة إيزابيل فيولانتي أطروحة جامعية عن أونجاريتي، واقتربت من تفاصيل هذه الصداقة التي تحولت بقوة الشعر إلى أسطورة، وذهب البعض إلى اعتبارها تمثيلاً للقاء الشرق والغرب.

يكتب أونجاريتي بعد مرور خمسين سنة على هذا التاريخ، وقد أصبح واحداً من أكبر شعراء إيطاليا: «كان محمد شهاب منفياً في فرنسا، وكنت منفياً في مصر، كنت بعيداً عن بلادي، وعاجزاً عن أن أغرس جذوري في أي مكان، وهذا ما حدث مع محمد شهاب.. كانت ثقافته مختلفة عن ثقافتي، ولَم يعد وهو في فرنسا رجلاً ينتمي إلى بلده ووسطه الاجتماعي، كان محمد شهاب يغرق في عزلته ويهجر دروس الحقوق في السوربون، ويكتفي بكسب لقمة العيش بالعمل محاسباً».

ويكتب أونجاريتي: «ما الذي جاء به إلى باريس، وهو يفتقر إلى العائلة والحب والأصدقاء والأمل؟، منح شهاب نفسه هوية فرنسية واسماً فرنسياً: اختار لنفسه اسم مارسيل، وألفى نفسه مبعداً ومنفياً ومقصياً، لكنه لم يكن فرنسياً، ولم يعد بمقدوره العيش تحت خيمة أسلافه، وهو يصغي إلى الأغاني الشعبية، ويتلذذ بطعم القهوة».

كان أونجاريتي قد سافر إلى روما، ثم لم يلبث أن اتجه إلى باريس، وكانت من أخصب سنوات حياته، وأشدها تأثيراً في وجدانه وعقله وطموحه، وتطوع في الحرب العالمية الأولى، وقضى معظم سنوات الحرب على الجبهة، وتحت وابل القنابل، وفي الخنادق المظلمة كتب قصائد مجموعته الشعرية الأولى (الميناء المدفون) التي ظهرت سنة 1916 وكانت القصائد تعبر عن إنسان وجد نفسه متورطاً في الحرب، وراح يسأل «لماذا؟».

شهرة

جاء بعد ذلك ديوان «فرحة الغرقى» الذي اختصره في الطبعات التالية إلى «الفرح»، واستطاعت قصائد الديوان أن تدعم شهرته، سواء بين الذين سخطوا عليه، أو الذين وجدوا فيه أملاً جديداً لإنقاذ الشعر الإيطالي من أوزانه التقليدية التي ملتها الأسماع، بعد كوارث حرب فظيعة، حطمت الأنظمة المستقرة في الفكر والفن والسياسة والاجتماع، إلى شعر يكون بدوره حطاماً وشظايا متناثرة تسجل بلغة الشعر المتعالية على الواقع الطبيعي، وعلى لغة التواصل، ذلك الواقع المادي والنفسي الذي تحول فيه الزمان والمكان والبشر إلى بقايا خرساء وأطلالاً منهارة تنطق بالصمت، وتوحي بالإشارة.

انتهت الحرب العالمية الأولى وعاد الشاعر إلى روما، وتولى العمل في وزارة الخارجية التي كلفته بالإشراف على تحرير مجلة تصدر باللغة الفرنسية، وكانت شهرته قد رسخت مع إصداره مجموعة «عاطفة الزمن» عام 1933 إلى جانب ظهور عدد من ترجماته لشكسبير وراسين ومالارميه، وسان جون بيرس، وانقسمت الآراء حوله، أما هو فقد اضطر للعمل مراسلاً صحفياً لإحدى الجرائد، للإنفاق على أسرته.

ومن البرازيل التي ذهب إليها بناء على دعوة للتدريس في إحدى جامعاتها، يعود إلى روما سنة 1942 بعد فقدان ابنه الذي لم يكمل تسع سنوات من العمر، وفي روما وجد الخراب والحرب وتم تكريمه، لكن هذا لم يستطع أن يخفي عن عيونه المأساة التي تعيشها بلاده، وبدأ في تدوين مجموعة قصائده في رثاء ابنه تحت عنوان «يوميات شعرية».

في عام 1947 كان أونجاريتي قد فصل من اتحاد الكتاب الإيطاليين بدعوى دعمه ومساندته للفاشية، وفي عام 1948 أصدر مجلداً بترجماته الشعرية، وألحقه في العام التالي بكتاب يضم أعماله النثرية تحت عنوان «الفقير في المدينة» وفي العام نفسه نال جائزة روما للشعر، وفي عام 1958 نُظّم له رسمياً احتفال بمناسبة بلوغه السبعين، وأصدرت مجلة الشعر عدداً خاصاً تكريماً له، وفي عام 1962 انتخب بإجماع الأصوات رئيساً لاتحاد كتاب إيطاليا، وبعد بضع سنوات مات على نحو مفاجئ في ميلانو.

مذكرات يومية

كانت كلمتا «حياة إنسان» مكتوبتين على غلاف كل مجموعاته الشعرية، فهل نفهم من هذا أن كل ما تركه الشاعر وراءه هو المحصلة النهائية لنوع من السيرة الذاتية؟، هو نفسه كتب في مقدمة ديوانه «الفرح»: «هذا الكتاب مذكرات يومية والمؤلف لا يطمح، ويعتقد أن الأدباء الكبار، لم يطمحوا إلا لأن يتركوا وراءهم سيرة شخصية جميلة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"