آن أوان الاعتذار عن الجرائم الاستعمارية

02:32 صباحا
قراءة 5 دقائق
رافق التطاحن بين القبائل والأقوام والأمم والدول مسيرة الإنسانية منذ فجر التاريخ. وشكل الغزو والاحتلال والاستعباد من جهة والانعتاق والاستقلال والتحرر من جهة ثانية، وجهين متلازمين لذلك التطاحن من دون أن يغلقا الباب أمام مسارات أخرى تصالحية واندماجية واستيعابية تحول معها من كانوا يعتبرون أنفسهم، في بداية الأمر، ضحايا للغزو والاحتلال، إلى معتزين. بما أصبحوا يعتبرونه إنقاذاً وخلاصاً وفتحاً، وإلى ورثة للغات وديانات وحضارات الفاتحين الأوائل.

وعلى الرغم مما كان يخلفه التطاحن بين الكثير من المجموعات البشرية من ندوب عميقة، وما كان يكرسه من تفاوتات عرقية واجتماعية، فقد سعت الانسانية، مستعينة بمرور الأحقاب الطويلة، إلى التصالح مع العديد من مخلفات ذلك التطاحن، وتغليب النظر إلى المستقبل والعناية بمتطلبات التقدم إلى الأمام. واستناداً إلى التراكم المهم الذي حققته الانسانية في العقود الأخيرة في مجالات التمدن وما يرتبط بها من قواعد مشتركة لتنظيم العلاقات بين الدول والقوميات على الصعيد العالمي، وتدبير الأزمات بينها بما في ذلك الحروب والاحتلالات، استناداً إلى ذلك اتجهت دول العالم الحديث إلى إقامة تنظيمات للتشاور والتعاون ومعالجة الأزمات، واعتمدت، من أجل ذلك، معاهدات ومواثيق وآليات.

وإذا كان كل ما وصلت إليه الإنسانية على الصعيد القانوني والتنظيمي لم يغيب منطق القوة، ولم يمنع الدول الكبرى من فرض إرادتها، وتكريس مصالحها الأنانية على حساب المعاهدات والمواثيق الدولية، وبواسطة الغزو والعدوان في كثير من الأحيان، فإن لا أحد يستطيع أن ينكر أن مأمورية تلك الدول أصبحت عسيرة، وخاصة بعد الإخفاقات العسكرية الكثيرة التي منيت بها الدول المذكورة في مغامراتها المتعددة، واشتداد الحاجة إلى التهدئة والاستقرار الضروريين لتوسع معظم قطاعات الاقتصاد الدولي، وبروز الحيوية المتزايدة للتعاون مع الدول الناهضة المكتنزة للثروات الطبيعية والواعدة بتنامي الأسواق. وفي مثل هذه الأوضاع التي تتطور لغير مصلحة منطق القوة الغاشمة، وترجح كفة التعاون القائم على الحد الأدنى من احترام الدول الناهضة، والاعتراف بحقوقها ومصالحها، تبرز قضايا تصفية الإرث الاستعماري السلبي. وتتجه إلى أخذ حجمها الطبيعي باعتبارها تمثل حقاً مشروعاً للأمم والشعوب، التي عانت من أقصى درجات القهر الاستعماري، في تلقي الاعتذار، وباعتبارها تمثل رقياً فعلياً في وعي الدول المستعمرة السابقة وفي وعي شعبها في التخلص من الذهنية الاستعمارية؛ وباعتبارها، إلى جانب هذا وذاك، تعبر عن الرغبة العميقة في توسيع التعاون وتسمح يإزالة معظم العوائق التي لا تزال تقف في وجهه.

ولكن المثير في الأمر أن دولاً ذات سجل استعماري رهيب مثل فرنسا اضطهدت أقواماً وشعوباً في آسيا والمحيط الهادي والكاريبي وإفريقيا، وأصرت على رفض تقديم أبسط اعتذار للضحايا، لم تتردد في انتزاع الاعتذار من ألمانيا التي احتلت التراب الفرنسي لبضع سنوات. وبذلك تكرس باريس وحليفاتها في الحرب العالمية الثانية مفهوماً خاصاً للاعتذار بجعله حقاً مقصوراً على المنتصرين ينتزعونه وبحد السيف من المنهزمين. ولا يجعله محطة رقي إنساني يعترف فيها للمظلوم بالأذى العميق الذي ألحق به، وتلتمس فيها المعذرة منه، ويتجه الجميع نحو مستقبل متحرر من جراح الماضي. والغريب كذلك أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي يرفض الاعتذار عن الجرائم الاستعمارية التي ارتكبتها بلاده بدعوى أن أمر تلك الجرائم، التي لا يتجرأ على إنكارها، لا يتعلق بجيله بل بجيل فرنسي آخر، لا يجد أي غضاضة في إلزام الجيل الذي يأتي بعده بمواصلة البكاء على ما لقيه اليهود الأوروبيون على أيدي النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك من خلال الاقتراح الذي أوصى بموجبه كل تلميذ فرنسي بحفظ ذكرى ضحية من ضحايا المحرقة النازية. ولا تمثل هذه النازلة الحالة الوحيدة التي يضبط فيها الرئيس الفرنسي متلبسا بالتمييز العنصري بين ضحايا المحرقة وضحايا الاستعمار الفرنسي في أصقاع مختلفة من العالم، بل هنالك نوازل أخرى من بينها الحملة التي شنها ساركوزي ومعه أغلبية البرلمان الفرنسي من أجل حمل تركيا على الاعتراف بالمذابح التي يقول ان هذه الأخيرة ارتكبتها في حق الأرمن في عشرينات القرن الماضي.

وترافقت الحملة المذكورة مع حملة أخرى مضادة هاجم فيها ساركوزي دعاة الاعتراف بالجرائم الاستعمارية الفرنسية في الجزائر. وفي مقابل الموقف الفرنسي المتعنت والمتخلف، أقدمت ايطاليا على اتخاذ خطوة جريئة عندما وقعت على اتفاقية الصداقة والتعاون مع ليبيا في الثلاثين من الشهر المنصرم، وعندما عبرت علانية عن اعترافها بجرائم الاستعمار الايطالي في ليبيا وقدمت اعتذارها عن ذلك لذوي الضحايا ولشعب ليبيا برمته. وخاطب رئيس الحكومة الايطالية سيلفيو برلوسكوني الليبيين قائلاً: من واجبي كرئيس للحكومة أن اعبر لكم باسم الشعب الايطالي عن أسفنا واعتذارنا عما سببناه لكم من جراح عميقة. وكانت ايطاليا قد احتلت ليبيا من سنة 1911 إلى سنة ،1943 ويقدر المؤرخون عدد الضحايا الليبيين الذي سقطوا في مقاومة الغزو والاحتلال الإيطاليين بعشرين ألف شهيد. وإلى جانب هؤلاء عمل المستعمرون على ترحيل عشرات الآلاف من الليبيين إلى ايطاليا وسقط ما يقارب أربعين ألفاً منهم في صحراء سيرت بسبب الأوبئة والإعدامات.

وبالإضافة إلى الاعتراف والاعتذار، التزمت ايطاليا بتقديم تعويضات لليبيا بقيمة خمسة مليارات دولار، وستجدد هذه التعويضات، خلال الخمس والعشرين سنة المقبلة، في تجهيزات أساسية تنجزها ايطاليا تتعلق خاصة بمشاريع سكنية وطريق سيار يوازي السواحل الليبية ممتداً من الحدود مع تونس غرباً إلى الحدود مع مصر شرقاً. وفي تعليقها على الحدث أشارت يومية لوموند الفرنسية إلى المنافع التي ستجنيها روما على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وقالت في عددها الثاني من الشهر الجاري إن رئيس الحكومة الايطالية جاء إلى ليبيا ليس فقط لتكريس المصالحة بل كذلك لتوسيع التعاون مع ليبيا في محاربة الهجرة السرية، وفي النمو بالغاز والبترول. وأضافت اليومية الفرنسية أن برلوسكوني لم يخفف الخلفية التجارية لمعاهدة الصداقة والتعاون مع ليبيا. والحقيقة أن لا أحد أنكر على فرنسا أن تحقق ما تهدف إليه من المنافع الكبيرة في تعاونها مع مستعمراتها السابقة مثل الجزائر على قاعدة الاعتراف بما ارتكبته في حق هذه الأخيرة خلال 130سنة، والاعتراف بذلك. وإذا كانت باريس مطمئنة إلى وجودها الاقتصادي والثقافي واللغوي في الجزائر، وتعتقد أن هذه الأخيرة لا خيار لها غير توسيع التعاون مع فرنسا على كافة الصعد، فإنها تخطئ كثيراً في حق نفسها، وفي حق الجزائر، وفي حق المنطقة المتوسطية، وفي حق الرقي بالقيم الإنسانية، عندما تقلل من شأن الاعتراف بالجرائم الاستعمارية والاعتذار عنها في تنقية العلاقات بين الدول والشعوب وتخليصها من أحقاد الماضي، وفي توسيع آفاق التعاون بينها. وكيفما كان الأمر، فإن ما أقدمت عليه ايطاليا، التي يقل ما ألحقته بالليبيين عما ألحقته فرنسا بالجزائريين يقوي موقف هؤلاء الأخيرين إزاء باريس، ويبين لفرنسا أنها ستكون رابحة على كافة المستويات إذا تواضعت واعترفت واعتذرت لضحاياها.

* كاتب مغربي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"