أمجاد العرب ومجازرهم

04:37 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

يتغنى العرب بأمجادهم، ويذرفون الدموع على مآسيهم. ما يدعوهم للفخر كثير، وما يجتر أحزانهم أكثر. وبين الأمجاد والأحزان يجري تاريخ العرب، وتكتب حكاياته بأحرف من نور تارة، وبدماء الضحايا تارة أخرى.
لم تهدر دماء الضحايا دائماً بأيدي الأعداء بل بأيدي العرب أنفسهم في حالات كثيرة في الماضي والحاضر أيضاً. التاريخ لا يكذب، وتحوي صفحاته قصصاً حزينة لقتل العربي لأخيه. من يقرأ هذا التاريخ سيجد فصولاً كاملة تروي حكايات مرعبة ومخجلة للمذابح العربية، بعضها بأيدي الأعداء وبعضها بأيدي العرب أنفسهم.
من الصعب حصر المذابح في التاريخ العربي. وستكون تلك محاولة مستحيلة إذا احتكمنا إلى التعريف العلمي للمجزرة أو المذبحة وفقاً لما تحدده دوائر المعارف والتي تذكر أن «القتل الجماعي هو كل عملية قتل في مكان محدد لخمسة أشخاص فأكثر، وهم غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم». هذا التعريف يعني وقوع مذبحة أو أكثر يومياً في بلاد العرب. حسبنا ما تختزنه الذاكرة من مجازر كبيرة مثل حماة (40 ألف قتيل) عام 1982 والبصرة (30 ألف قتيل) عام1991 وحلبجة (5 آلاف قتيل) عام 88 وصبرا وشاتيلا عام 82.
أحدث مذابحنا الجارية حالياً هي الغوطة الشرقية أو غوطة دمشق التي يراقبها العالم دون أن يقدّم غير كلمات الرثاء. حتى تلك الكلمات قد يعجز أصحاب الضمائر اليقظة عن استخدامها للتعبير عن فجيعتهم وآلامهم وخجلهم. اليونيسيف كانت واحدة من هذا الصنف النادر، أصدرت الأسبوع الماضي بياناً خالياً من أي مضمون، «لأن ما يجري لا يمكن التعبير عنه بكلمات. هكذا قالت المنظمة المعنية بشؤون الأطفال، وهي ترصد قتل مئات منهم واستخراج جثامينهم من تحت الأنقاض».
من لم يمت بالقذائف أو البراميل المتفجرة المنهمرة من السماء، مات جوعاً بعد أن نفد مخزون الطعام. الغوطة تحوّلت إلى مقبرة جماعية لم يعد بها حتى مكان للاختباء. تهدّمت الملاجئ مع المستشفيات والمنازل والمدارس. كل شيء أصبح أنقاضاً. ولا ينتظر سكانها إلا اللحاق بأربعة آلاف من رفاقهم سبقوهم إلى الموت.
لن تتوقف المذبحة حتى في ظل هدنة مجلس الأمن. متطلبات الحرب وأهدافها أقوى من القرارات الدولية ومن الاعتبارات الإنسانية. النظام السوري ومعه إيران وروسيا يعتبر السيطرة على الغوطة هدفاً استراتيجياً، لا يمكن التضحية به أو التفريط فيه مهما كانت العواقب، وأياً كان عدد الضحايا.
الغوطة بقربها من دمشق، تظل مطمعاً ليس فقط لرمزيتها ولكن لضرورات عسكرية. هذه المنطقة التي كانت يوماً جنّة فيحاء تفيض بالخير هي آخر جيوب المقاومة المسلّحة، ومن بينها جماعات إرهابية بالقرب من العاصمة. والاستيلاء عليها يتيح للنظام حشد قواته للانقضاض على جيوب أخرى في حمص وجنوب حماة.
موقع الغوطة الاستراتيجي جرّ عليها الويلات. فهي المدخل الجنوبي لدمشق، وتشرف على الطريق لمطارها. وتتصل بطرق مؤدية إلى محافظتي درعا والسويداء أي باتجاه الحدود الأردنية جنوباً والعراقية شرقاً.
كما أن كسب مزيد من الأرض هو هدف دائم في الصراع الحالي بين روسيا والولايات المتحدة عبر وكلائهما في سوريا. ولأنه من المستحيل الاقتراب من شرق الفرات أو منطقة الجزيرة، حيث تتمركز القوات الأمريكية، فمن الضروري المسارعة بالسيطرة على ما يمكن من مساحات قبل أن يمتد إليها النفوذ أو الوجود الأمريكي المباشر.
إنها الحرب بقسوتها وعنفها وشرورها التي يدفع ثمنها الأبرياء العزل. وليس في هذا ما يدعو للدهشة، فقد كانت هكذا منذ فجر التاريخ. وقبل أسبوع أعادت «الجارديان» تذكيرنا بهذه الحقيقة عندما استدعت كلمات للمؤرخ الإغريقي ثوسيديس تقول: «الأقوياء يفعلون ما يريدون والضعفاء يعانون كما يجب أن يعانوا». كان هذا المؤرخ الفيلسوف يصف حال مدينة حاصرتها أثينا بسبب مقاومة أهلها. حدث هذا قبل خمسة قرون من ميلاد المسيح، عليه السلام، وما زال يحدث مثله بل أسوأ منه في الغوطة حتى اليوم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"