إدارة ترامب ومستقبل حلف الأطلسي

03:23 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي
خلال حملته الانتخابية هاجم دونالد ترامب حلف الأطلسي، وأعطى الانطباع بأنه سيخرج منه إذا ما فاز في الانتخابات. وبعد هذا الفوز، وفي مقابلته الشهيرة مع مجلتي «بيلد» الألمانية، و«تايمز» البريطانية، وصف الحلف الذي «أنشئ منذ سنوات وسنوات» بأنه «عفا عليه الزمن »، وأنه «لم يهتم بمحاربة الإرهاب»، كما انتقد الدول الأعضاء التي لا تدفع ما يترتب عليها للحلف فتعتمد على الولايات المتحدة التي تساهم بما نسبته سبعين في المئة من ميزانيته.
وكان تم الاتفاق في العام ٢٠١٤، على أن ترفع الدول الأعضاء ميزانياتها العسكرية إلى اثنين في المئة من ناتجها الإجمالي القائم. خمس دول فقط، تطبق هذا الاتفاق، وتدفع متوجباتها إلى الحلف. لكن في ما عدا ذلك أردف ترامب بالقول: «يبقى الناتو في نظري مهما جداً»، رغم أنه وعد «بالتفكير أكثر من مرة» قبل مد يد المساعدة لبلد من الناتو إذا لم تحصل واشنطن «على مقابل معقول» لهذه المساعدة.
هذا الكلام تسبب بقلق كبير في الاتحاد الأوروبي، لا سيما بعد ما رافقه من تأييد لل«بريكست»، وتشجيعه لدول أخرى على أن تحذو حذو بريطانيا، ووعوده بالتقارب مع روسيا ورئيسها بوتين. وفي أوروبا الشرقية عاد الخوف من النفوذ الروسي، لاسيما إذا ما تخلت الإدارة الأمريكية عن حمايتها لحلفائها من المعسكر الشرقي السابق الذين بدأ بعضهم، كتشيكيا وهنغاريا وبلغاريا، يدعو إلى التقارب مع روسيا بدل استعدائها.
لكن كما تراجع ترامب عن الكثير من مواقفه المعلنة، فإنه أرسل وزير دفاعه الجنرال جيم ماتيس إلى بروكسل في ١٥ فبراير/شباط الماضي ليعلن أمام نظرائه ال٢٧ بأن الناتو «عمود أساسي بالنسبة للولايات المتحدة وكل المجموعة الأطلسية» وبأنه «مثل الرئيس ترامب يؤيد بقوة الناتو»، وهو شخصياً يعتبره بيته الثاني. لكنه حرص على تحذير الأوروبيين بأنهم إذا لم يفوا بالتزاماتهم حيال الحلف فإن الولايات المتحدة قد تتوقف هي الأخرى عن الوفاء بالتزاماتها، (الأمر الذي يعني نهاية الحلف). الصحافة الأمريكية اعتبرت هذا الكلام رصاصة تهديد أطلقت في الهواء، والأوروبية وجدت فيه تطميناً بأن واشنطن لا تزال تتمسك بالحلف.
الأوروبيون يحتاجون إلى القوة العسكرية الأمريكية في الحلف، في حين أن واشنطن التي استثمرت كثيراً فيه تريد اليوم نقل جهودها إلى الباسيفيك. واتهاماتها للأوروبيين بالتقاعس ليست جديدة، لكن انتقادات ترامب الموجهة مباشرة للحلف، وتهديده المقنع بالانسحاب منه هو الجديد المفاجئ.
معاهدة واشنطن (4/4/1994) في مادتها الخامسة وضعت ميثاق دفاع بين الدول الموقعة (كان عددها ١٢ وقتها واليوم بلغت ٢٨ عضواً) لتواجه بشكل جماعي كل هجوم على أراضي أي دولة عضو. ومن أجل تنظيم القدرة على مواجهة التهديد العسكري السوفييتي، تم إنشاء منظمة مدنية -عسكرية.
الشق المدني من المنظمة الأطلسية، وتحديداً «مجلس الأطلسي الشمالي» ينظم مسارات القرار السياسي في حين أن المنظمة العسكرية المدمجة تحت إمرة «القيادة العليا للقوات الحليفة في أوروبا» تضم قيادات أركان القوات الجاهزة للتحرك. هذه البنية الدائمة الموحدة وجهودها لتنسيق الإجراءات والقوات والأسلحة تملكت قدرة متميزة على إدماج قوات متعددة الجنسية. لهذا تمكنت من البقاء بعد زوال الخطر السوفييتي، وتولت مهمات عسكرية كما في البوسنة-الهرسك العام ١٩٩٢، وكوسوفو العام ١٩٩٩، وأفغانستان بين العامين ٢٠٠٣ و٢٠١٤، فضلاً عن مكافحة الإرهاب، والقرصنة، أو التدخل الإنساني، وما شابه. وكانت في عدد من هذه العمليات الذراع المسلحة لمجلس الأمن الدولي.
هذه «المنظمة» ليست سوى أداة مزدوجة سياسية/عسكرية للحلف. وتأخذ الإدارة الأمريكية في الاعتبار هذا التمييز عندما توجه انتقاداتها لعدم التوازن بين الدول الأعضاء في مجال المساهمة العسكرية، وليس المسارح التي تستخدم فيها (القرار السياسي).
المنظمة السياسية هي المكان الوحيد تقريباً، حيث تلتقي الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى للكلام عن مواضيع سياسية، وهي لا تريد التنازل عن هذه الميزة. لذلك ذهبت السلطات الأمريكية الجديدة إلى مركز قيادة الحلف في بروكسل، وسيلتقي ترامب قيادة دول الحلف في مايو/أيار المقبل. وللدول الأعضاء الأخرى مصلحة في المحافظة على هذه المنظمة السياسية التي تسمح لها بالاطلاع على كل عملية يقوم بها الحلف، حتى لو لم تشترك فيها. ولهذا السبب مثلاً، فإن الدول الأعضاء كانت أصرت أن يقوم الحلف بقيادة العمليات في ليبيا العام ٢٠١١.
وبالنسبة إلى واشنطن فإن الشق العسكري في الحلف مهم عندما يغدو أداة لتقوية (أفغانستان)، أو الحلول محل الانخراط الأمريكي المباشر (ليبيا). لكن الرئيس الجديد ترامب لا يريد المشاركة في كل الأزمات الدولية، لذلك تضحى هذه الأداة أقل أهمية بالنسبة إليه. وعلى العكس بالنسبة للدول الأوروبية، فإن الشق العسكري يكتسب المزيد من الأهمية لأنه يضمن بقاء قدرة دفاعية، بتكلفة زهيدة، بفضل القوة الأمريكية. لهذا لا تنفك واشنطن تنتقد الأوروبيين بأنهم، منذ نهاية الحرب الباردة، يتمتعون بنعمة الأمن والسلام من دون أن يدفعوا مقابلها. وهكذا بعد المطالبات جاء وقت التحذيرات والتهديدات بالأسلوب المباشر للرئيس الشعباوي الجديد الذي أعلن أنه «ما من التزام عسكري أمريكي إذا لم يكن هناك من تقاسم أفضل للعبء المادي».
الأوروبيون واعون لهشاشة وضعهم الدفاعي في مواجهة التهديدات المتعاظمة من الإرهاب، وحدودهم الجنوبية والشرقية وصولاً إلى آسيا الوسطى، لكن الواقع يمنعهم من زيادة ميزانياتهم الدفاعية لأسباب اقتصادية على الأقل، في وقت يستعد عدد من دولهم الأساسية لانتخابات مفصلية خلال العام الجاري.
المسألة ليست في أن ترامب لا يريد الناتو، إنه يريد المال من الأوروبيين العاجزين عن تأمينه في هذه الظروف، رغم حاجتهم المستمرة لهذا الحلف. هذه حدود المشكلة باختصار شديد.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"