الأمن الغذائي.. والصين

23:36 مساء
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة *

قال دينغ سياو بينغ، الذي حكم الصين الشعبية من آخر السبعينات حتى سنة 1997، إن «الغنى المادي مجيد؛ بل رائع»، وغيّر هيكلية الاقتصاد عبر الارتكاز على إدخال عامل السوق إلى القطاع الزراعي وثانياً اتصل بالبنك الدولي طالباً المساعدة.
ترغب جميع الدول في التقدم والنمو والتطور. ووجود قيادات واعية تسعى للوصول إلى الأهداف الخيرة مهم جداً، وهنالك مصلحة وطنية في تحسين مستوى المعيشة؛ أي رفع معدل الدخل الفردي، الذي يسمح للمواطن بالعيش الكريم. نوعية الحياة مهمة جداً أي خالية من التلوث. لا يمكن أن يعيش الإنسان اليوم بكرامة في دول لا تحترم الحريات، ولا تحارب الفساد، ولا تسعى بكل السياسات الممكنة إلى رفع الإنتاجية، وتشجيع الإبداع والتجدد والابتكار؛ فالنمو الصحيح النوعي والدائم هو الذي يتحقق في نفس الوقت مع تطور الحقوق القانونية والسياسية والاجتماعية. أما الأمور المادية كتطوير البنية التحتية، فتكمل الحقوق؛ لكنها لا يمكن أن تكون الأساس. تزامن التطور المادي مع الحقوقي يؤدي إلى محاربة الفقر بنجاح؛ عبر تطوير القطاعات الأساسية من زراعة وري، كما مع الشركات المتوسطة والصغيرة والفردية.
ما واقع الأمن الغذائي اليوم؟ يتأرجح من فترة لأخرى بين المقبول والصعب. ما خصائص معاناة الأمن الغذائي؟ يتأثر بالأسعار حكماً؛ حيث عرف العالم ارتفاعاً سابقاً في الأسعار أضر بالفقراء. أحياناً تكون المشكلة في ارتفاع الطلب؛ لكن السبب الأهم هو تقلب العرض في الإنتاج والنقل والتسويق. يتأثر بالمساحة الأرضية الصالحة للزراعة، ومدى توافر المياه، كما الأدوية والأسمدة الكافية. يتأثر بالمنافسة الدولية الحاصلة بين المنتجين الزراعيين؛ حيث يعد الغذاء عامل قوة كبيراً ومؤثراً. يتأثر الأمن الغذائي حتماً بالأوضاع الأمنية؛ حيث تنتشر الحروب في العديد من المساحات الخصبة. يتعرقل الإنتاج والنقل والتسويق ويؤدي إلى عدم توافر الغذاء محلياً ودولياً، مما يرفع الأسعار. أسباب الجوع معروفة وتسببها الحروب والتغيرات المناخية كما سوء توزع الدخل والثروة بين المواطنين.
ما الخريطة الزراعية العالمية اليوم؟ هنالك شركات قليلة تسيطر على الأسواق. المزارع لا يحصل إلا على القليل، أما الكثير فيذهب إلى التاجر والشركات العملاقة العشر التي تسيطر على النقل والتسويق، وتتمتع بالخبرات الكبيرة والشبكات المادية المتخصصة. الشركات الكبرى غربية من «نستله» إلى «بيبسيكو» و«كوكا كولا» و«تايسون» و«كرافت هاينز» وغيرها. كانت الولايات المتحدة تشكل 23% من السوق الزراعي العالمي في سنة 1995، وأصبحت اليوم 14%؛ لأن المناطق الأخرى كبرت وفي مقدمتها آسيا والصين تحديداً. تصدر الولايات المتحدة حوالي 20% من إنتاجها الزراعي، وما تزال المصدرة الأولى عالمياً للقمح والذرة والقطن، وفي الطليعة في معظم السلع الأخرى. أما دول الوحدة الأوروبية فهي مهمة جداً في التجارة الغذائية العالمية؛ بفضل قوة فرنسا وإيطاليا وألمانيا. هذه الدول تعد دولاً زراعية، وذات إنتاج متنوع في معظم السلع. تستهلك الكثير وتصدر الكثير أيضاً. أما روسيا فلا شك أنها مهمة جداً في صادرات الحبوب، وذات وجود وحضور واضح في تلك الأسواق.
القطاع الزراعي مهم جداً؛ لكن الأهم ضمنه هو الغذاء الركيزة الأساسية للحياة. هنالك سلسلة كبيرة من الخطوات تتكون من الإنتاج حتى الاستهلاك. المواطن اليوم واع ليس فقط لتوافر السلع وأسعارها، وإنما للنوعية أيضاً؛ حيث مواضيع الصحة والتلوث والأمراض المنتشرة هي في صلب اهتمامات المواطن والمجتمعات. فالتقنيات الإنتاجية تتطور وتستفيد من تقدم العلوم والقطاعات الأخرى. أما تقنيات الإنتاج فهي تحتاج دائماً إلى الرقابة؛ لأن جشع المصنعين كما التجار يمكن أن يتفوق أحياناً على عمل الضمير وحسن الأخلاق.
أما الصين، فهي قوة اقتصادية عالمية أساسية غيّرت المعادلات في كل القطاعات بما فيها الغذاء. قوة الصين تتأرجح بين الاقتصاد الأول أو الثاني تبعاً للمعايير المعتمدة، لكن يبقى نفوذها قوياً في الحالتين. زيادة الرئيس الصيني الأخيرة لإيطاليا، وتوقيع عقود ضخمة في وقت تنعزل معه الولايات المتحدة تجارياً؛ سيعطي الصين دفعاً جديداً في التأثير الواضح على تطور الاقتصاد العالمي. «طريق الحرير» الجديدة مهمة جداً وستربط الصين أكثر بأوروبا وببقية القارات المجاورة. لا تملك الصين إلا 700 متر مربع من الأرض لكل مواطن، مقابل معدل عالمي يبلغ 2100 متر مربع، مما يشير إلى ضيق الأراضي المتوافرة للشعب الصيني، وبالتالي صعوبة تنشيط الزراعة عموماً والغذاء خصوصاً.
في الماضي، كانت الصين غنية في المياه، أما اليوم ومع الزيادات السكانية المعروفة والحاجات الزراعية بما فيها الري لم تعد كذلك. مع نمو المدن وتغير بل تطور أذواق المواطنين، زادت الحاجة إلى المياه بمختلف استعمالاتها بالرغم من وجود العديد من الأنهار الكبيرة، والتي أهمها «يانغتزي». بالرغم من أن المواطن الصيني عموماً محافظ ومتنبه لاستهلاكه، إلا أن هنالك حدوداً للتقشف في زمن يعرف الصيني كيف يعيش المواطن الغربي، وكيف يبذر في كل شيء. مشاكل الصين المائية تبقى مترابطة أي متأثرة بالتلوث والتغير المناخي وسوء الاستعمال، وربما الإفراط به، كما بتوسع الأرض الجاهزة للزراعة. فالمياه متأثرة كما في كل الدول بسوء الاستعمال الطبيعي، كما بسوء الاستعمال الفردي والسكاني.
هل هنالك حلول لمشكلة المياه في الصين وبالتالي لمشاكل الري والشرب وبقية أنواع الاستعمالات؟ هنالك من يربط حل مشكلة المياه بالحلول السياسية والاجتماعية والإنسانية كما الاقتصادية. هنالك من يقول: إن السياسيين الذين لا يستطيعون إدارة المواضيع البيئية، غير مؤهلين لإدارة الإنسان والشعوب والدول. فإدارة البيئة هي نوع من الامتحان لكيفية إدارة البشر ومصالحهم. قال ماو تسي تونغ: «كل إنسان هو جندي» أي متأهب دائماً لخدمة الوطن والدفاع عن مصالحه. هل هنالك اهتمام كافٍ في الصين اليوم بالبيئة؟
عودة إلى «تشو انلاي» في سنة 1975، والذي كان أول رئيس وزراء للصين الشعبية (من 1949 حتى 1976)؛ حيث قال: إن على الصين أن تتطور في الاتجاهات الأربعة التالية أي في: الزراعة، الصناعة، العلوم والتكنولوجيا كما الدفاع. لم يأت على ذكر البيئة والتلوث والتغير المناخي. لا شك أن الأولويات كانت مختلفة، والواضح التركيز على المادة والنمو الكمي.
قال «دينغ سياو بينغ»، الذي حكم الصين الشعبية من آخر السبعينات حتى سنة 1997، إن «الغنى المادي مجيد؛ بل رائع». غيّر دينغ هيكلية الاقتصاد الصيني عبر الارتكاز على عاملين أساسيين؛ هما أولاً إدخال عامل السوق إلى القطاع الزراعي مما جعل المزارع يربح وبالتالي يطور نفسه أكثر وأسرع، وثانياً اتصل بالبنك الدولي طالباً المساعدة. لم تكن تحتاج الصين إلى المال؛ بل إلى المساعدات العلمية والتقنية، وهذا ما حصل عليه لتطوير الاقتصاد الصيني. التواضع في طلب العلم ميز القائد الصيني التاريخي في فترة كانت تقود خلاله الدول الغربية وحتى الاتحاد السوفييتي مجموعة من المدعين بالمعرفة والعلم والنظرة المستقبلية الصحيحة. لم تكن هذه الدول تفكر يوماً أن الصين ستكون على ما هي عليه اليوم، وكانت الكتب التي صدرت في وقتها عن الصين تعد نوعاً من الخيال والتوقعات وربما التمنيات.
لم تكن الأنظمة الرأسمالية أفضل من الصين من ناحية استهلاك المياه والاهتمام بالبيئة. تمت الإساءة إلى النظافة البيئية في كل الدول، وها هو ترامب ينسحب اليوم من أهم اتفاقية بيئية موقعة قبله. لم تفضل الأنظمة الرأسمالية تاريخياً البيئة على التنمية؛ بل العكس هو الصحيح، وها هي تحاول اليوم تنظيف الهواء والمياه وغيرهما قبل فوات الأوان. لم ترحم الأنظمة الرأسمالية الموارد المائية لديها؛ بل أساءت استعمالها وهدرتها، وها هي تحاول التقنين اليوم. من الممكن أن تغير الخريطة المائية الدولية العلاقات بين الأمم في نوعيتها وعمقها وتحالفاتها. الجميع يتكلم اليوم عن النفط والغاز، لكن الصراع على الموارد المائية هو أهم وأخطر بكثير.

* أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"