الشعبوية في الغرب ومستقبلها

04:28 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

ظاهرة الشعبوية المتنامية في العالم الغربي في هذه الأيام ليست حديثة العهد، بل بدأت بالظهور في روسيا وفرنسا والولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر، ثم كان لها اندفاعات هنا وهناك في أوروبا، لفترات قصيرة خلال القرن المنصرم. لكن العالم الثالث، من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية مروراً بآسيا والعالمين العربي والإسلامي، رزح تحت حكام شعبويين لفترات طويلة، وفي دول كثيرة لا يزالون إلى اليوم.
وينقسم الباحثون في ظاهرة الشعبوية إلى تيارين. يعتبر الأول أنها تشكل نوعاً من الأيديولوجيا الجديدة التي لا ترتكز على عقيدة واضحة، لكنها تأتي لتسد الفراغ الناجم عن تراجع الأيديولوجيات التقليدية الكبرى كالليبرالية والاشتراكية والشيوعية وغيرها. أما التيار الثاني، فيرى الشعبوية مجرد أسلوب سياسي، كما هو حال الشعبويات الراهنة التي تدعي الدفاع عن الشعب في مواجهة طبقة سياسية تعمل ضده وتتآمر عليه. وتركّز هذه الشعبويات على قناعاتها بأن المشاكل القائمة ليست بهذا التعقيد، فتطرح حلولاً تبسيطية، كما تطالب بإشراك الشعب في الحكم عبر تنظيم الاستفتاءات والنقاشات في صفحات التواصل الاجتماعي. وتستمر هذه الشعبويات في اختراع الأعداء بطرق عمودية، مثل الطبقة السياسية والعولمة والغرباء والمسلمين والأحزاب التقليدية إلخ. ويعتمد نجاح الأسلوب الشعبوي على وجود قائد يجسد بشخصيته الكاريزمية إرادة الشعب.
لقد أخذت هذه الشعبويات بالازدهار بعد سقوط جدار برلين، في عام ١٩٨٩، الذي أنهى المواجهة العالمية بين الشيوعية والرأسمالية، ثم غداة تفجيرات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ التي غذت الإسلاموفوبيا في الغرب، ثم بسبب الأزمة المالية العالمية في عام ٢٠٠٨ وتداعياتها، وأخيراً وليس آخراً أزمة اللجوء والهجرة الناجمة عن تدفق اللاجئين إلى أوروبا بفعل ما يسمى «الربيع العربي» انطلاقاً من عام ٢٠١١، وما تبعه من تفجيرات إرهابية داعشية في عدد من المدن الأوروبية.
ولا ينجم صعود الشعبوية في الغرب عن سبب واحد وحيد، بل يرتكز على عوامل ثلاثة أساسية: تراجع الثقة بالمؤسسات والأحزاب والطبقات السياسية القائمة، الأزمة الاجتماعية الناجمة عن تزايد البطالة والتفاوت الطبقي والفقر، أزمة الهوية والانتماء، ولا سيما حيال الكيانات فوق-الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي أو «الغرباء» من اللاجئين والمهاجرين الشرعيين منهم وغير الشرعيين.
وينتج عن الشعبوية، في الغرب، سواء كانت في السلطة أو المعارضة، اهتراءات في الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية التمثيلية والليبرالية. هذه الديمقراطية تقوم أساساً على سلطة الشعب، بحسب الجذر الإغريقي للمصطلح، ولكنها في أشكالها المعاصرة تقوم على وجود دولة القانون والمؤسسات الوسيطة ما بين الحكام والمحكومين كالنقابات والأحزاب والجمعيات والمنظمات وغيرها. ويسدد الشعبويون ضربات قوية لهذا الشكل من الديمقراطية، لأنهم يريدون فرض سيادة الشعب مباشرة من دون المرور بمثل هذه المؤسسات المشكوك في نزاهتها وقدراتها.
وتسهم تكنولوجيا الاتصال في انتشار الأفكار الشعبوية التبسيطية. والمشكلة أن خصوم الشعبوية يجدون أنفسهم مضطرين إلى تبني بعض أفكارها وأساليب عملها. من هنا جاء انتشار ظاهرة «الأنتي-سيستم» أو معاداة الاستابليشمنت، فحكام فرنسا والولايات المتحدة والبرازيل وهنغاريا وبولونيا وإيطاليا وغيرهم، خاضوا معاركهم الانتخابية على أساس معاداة «السيستم» القائم رغم أنهم، وهنا المفارقة، أبناء هذا «السيستم» نفسه، وبفضله وصلوا إلى ما هم عليه اليوم.
لقد تطورت الديمقراطية تدريجياً في الغرب، لتصبح في الأساس ديمقراطية برلمانات وأحزاب سياسية. وفي نهاية القرن المنصرم وإزاء تآكل الأحزاب والثقافات السياسية التقليدية وسيطرة الإعلام على الحياة السياسية، ابتدع المفكر الفرنسي برنار مانان مصطلح «ديمقراطية المساحة العامة» بديلاً عن «الديمقراطية اللاليبرالية» التي تكلم عنها الأمريكي فريد زكريا، والتي تتطور اليوم لتغدو نوعاً من «الشعبوقراطية»، وهو مفهوم جديد ابتكره عالم الاجتماع الإيطالي إيلفو ديامانتي القلق من تصاعد الشعبوية، والتي وصلت إلى السلطة في بلاده. ويعتبر ديامانتي أن الشعبوقراطية تشكل تحدياً للديمقراطية الليبرالية التمثيلية، ذلك أن ظهور ممارسات ونظم سياسية جديدة يفرض اختراع مفاهيم سياسية جديدة، كما حصل في ثلاثينات وخمسينات القرن المنصرم عندما سمح مفهوم «التوتاليتارية» بمقاربة مفاهيم مختلفة مثل البولشفية والفاشية والنازية.
فالشعبويون يجتمعون حول نقاط مشتركة (السيادة الوطنية، عدم الثقة بالطبقة السياسية، رفض المؤسسات فوق-الوطنية، ...إلخ)، لكنهم مختلفون ومتنوعون جداً. فهناك شعبوية يمينية أو يسارية وأخرى لا يمينية ولا يسارية. هناك شعبويون إقليميون، وشعبويون من رجال أعمال يدخلون في السياسة (مثل سيلفيو برلسكوني، أو دونالد ترامب، أو التشيكي أندرو بابيس ...) يعتبرون أن الدول تدار كالشركات.
وهؤلاء يختلفون حول مفهوم الشعب والأمة مثلاً، ولا يتبعون الاستراتيجيات نفسها، ولا يتوجهون إلى الشرائح الناخبة نفسها، وليس لهم البنى التنظيمية نفسها، لذلك فإن التحالف ما بينهم يبقى بعيد المنال. فالإيطالي ماتيو سالفيني يريد توزيعاً أكثر تكافؤاً للمهاجرين بين الدول الأوروبية، وهو الأمر الذي يرفضه صديقه الهنغاري فيكتور أوربان، الذي يتعرض لانتقادات عنيفة من حلفائه البولونيين بسبب تقربه من فلاديمير بوتين. مثال آخر: هناك من يريد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهناك من يفضل البقاء، ولو مرحلياً ...إلخ.
عدا ذلك برهنت التجربة أن الأحزاب الشعبوية حين تصل إلى السلطة تصطدم بجدار الواقع، فتعود جزءاً من «السيستم» الذي تناهضه وترفضه. ولا يزال تصويت الناخبين لها فعلاً احتجاجياً، بسبب إخفاقات الأحزاب التقليدية، أكثر منه تعبيراً عن الإعجاب بأفكارها وبرامجها. لذلك فمن الأرجح أن تبقى أسلوب عمل سياسي أكثر منها أيديولوجيا في طور التكون والنضوج. لكنه أسلوب عمل يرجح أن يعتنقه المزيد من الطامحين إلى السلطة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"