تحذير من هشاشة النظام المالي العالمي

00:25 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. أيمن علي *
تقدر مؤسسة التصنيف الائتماني (ستاندرد أند بورز) زيادة كبيرة في سندات دين الشركات منخفضة التصنيف. وفيما تنتفض الأسواق إذا زاد العائد على سندات الخزينة عن 3%، وصل العائد على السندات الأمريكية الرديئة إلى 7.2%.

مع عودة الحديث بكثافة عن احتمالات دخول الاقتصاد العالمي في أزمة، وربما بشكل مبالغ فيه أحياناً، يظل الجانب الأهم من مشاكل الاقتصاد العالمي غير بارز في تلك التقارير والتحليلات. بالطبع يتابع الإعلام، حتى الاقتصادي منه، الأخبار الآنية مثل تراجع مؤشرات الأسهم الرئيسية بنهاية العام وتشديد السياسة النقدية الأمريكية وقرار البنك المركزي الأوروبي ببدء وقف سياسة «التيسير النقدي» (أي ضخ الأموال ببساطة) ومعدلات العائد على السندات وغيرها. واستنادا إلى ذلك تأتي التوقعات السريعة بأن الاقتصاد العالمي مقبل على أزمة وأن 2019 قد يكون مشابهاً لعام 2008. 

الواقع أنه في خلفية الذهن لدى كثير من المراقبين والمحللين الاقتصاديين الحكمة التقليدية بأن الدورة الاقتصادية لا بد أن تكون اكتملت وأننا على وشك تراجع نمو وكأنما النمو تحسن كثيرا منذ الأزمة السابقة قبل عقد من الزمن وشهدنا رواجاً! ويرى البعض الآن أن الدورات الاقتصادية لم تعد تتبع القاعدة الكلاسيكية التي سادت حتى بعد منتصف القرن الماضي وهي زيادة في التضخم مع الرواج وتدخل البنوك المركزية بزيادة الفائدة فيحدث الركود. إنما أصبحت دورات الرواج والركود الآن مرتبطة بفائض الائتمان ثم ارتفاع معدلات خدمة الديون. ويرجع هؤلاء ذلك للعولمة ودخول الصين وغيرها من الاقتصادات الصاعدة في شبكة الاقتصاد العالمي بقوة عبر التجارة والاستثمار.
وفي ظل هذه الأجواء، يعود المعنيون بالاقتصاد العالمي للأسس والأصول وأهمها في تصوري هو أن الأزمة المالية العالمية الأخيرة في 2008 لم تكن كافية كي يقوم واضعو السياسات المالية والنقدية في الاقتصادات الرئيسية في العالم بإصلاح جذري للاختلالات الهيكلية التي قادت إلى الأزمة. ورغم فعالية الإجراءات التي اتخذت على مدى السنوات العشر الأخيرة في تفادي دخول العالم في كساد طويل إلا أنها كانت إجراءات وسياسات لمعالجة العرض في جانبها الأكبر ولم يحدث أن طالت الأسس.
في تقريره ربع السنوي الأخير لهذا العام، حذر بنك التسويات الدولية (الذي يوصف بأنه البنك المركزي للبنوك المركزية في العالم) من عدم استقرار النظام المالي العالمي محذرا من احتمالات تداعيات سلبية مضاعفة إذا شهد الاقتصاد العالمي أي أزمة. وركز التقرير على الوضع المقلق لمراكز المقاصة المالية العالمية الكبرى، التي تتولى أعمال المقاصة لتداول القدر الأكبر من مشتقات استثمارية وائتمانية تصل قيمتها إلى 540 تريليون دولار حول العالم.
ولرسم صورة حول حجم التداعيات، يشير البنك إلى أن القيمة الاسمية للمشتقات التي تجري عليها عمليات المقاصة عالميا وصلت إلى مستوى 4.4 ضعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بينما كان حجمها في 2008 نحو 2.8 ضعف الاقتصاد العالمي. وكما يفصل التقرير فإن هشاشة تلك المراكز ذاتها يمكن أن تؤدي إلى تفاعلات سلبية متصاعدة تزيد من حجم أي خطر ناجم عن أزمة اقتصادية.
يلقي باللوم في ذلك على المسؤولين عن السياسات المالية والنقدية، وحزم الإجراءات والقواعد التي تلت الأزمة المالية العالمية قبل عشر سنوات، مشيرا إلى أنها قد تكون أضعفت النظام المالي العالمي من حيث لا تحتسب. لشرح الأمر ببساطة، أدت التشريعات والإجراءات والقواعد إلى أن أصبح هناك ارتباط (على طريقة الأواني المستطرقة) بين القطاع المصرفي ومراكز المقاصة يعني احتمالات التفاعل المركب في حالة الأزمة مما يزيد الأضرار ويؤدي لكارثة.
كمثال: عمليات بيع هائلة للأصول - تلجأ البنوك لحماية السيولة فتزيد من قيود الائتمان - نتيجة الترابط، تشهد حسابات ميزانية مراكز المقاصة عجزا - ينعكس ذلك على تداول المشتقات - مزيد من الضغط على سوق الائتمان والإقراض ما بين المصارف - وهكذا في حلقة مفرغة تزيد من الآثار السلبية.
والآن، وفي مواجهة تراجع مؤشرات الأسهم في الأسواق المالية الرئيسية واستمرار الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) في تشديد السياسة النقدية، يواجه النظام المالي العالمي صعوبة متزايدة. وتجد البنوك المركزية الرئيسية حول العالم نفسها في وضع لا تحسد عليه. فهي تحاول مؤخرا التوقف عن إجراءات دعم الأسواق عبر التيسير النقدي الذي بدأته قبل عشر سنوات لمواجهة الأزمة الأخيرة وذلك للحد من غليان فقاعة الدين الناجمة عن التيسير النقدي وانخفاض معدلات الفائدة. وفي الوقت نفسه هي مطالبة بألا تكون سببا في تراجع النمو الاقتصادي نتيجة التشديد على سوق الائتمان والإقراض، كما أن رفع أسعار الفائدة يبدو الآن غير مرتبط بالقاعدة الذهبية المتعلقة بكبح جماح التضخم. فمعدلات التضخم لا ترتفع عالميا بالقدر الذي يبرر التشديد النقدي السريع.
في أحدث تقاريرها تقدر مؤسسة التصنيف الائتماني ستاندرد أند بورز زيادة كبيرة في سندات دين الشركات منخفضة التصنيف، أو «الرديئة». وفيما تنتفض الأسواق إذا زاد العائد على سندات الخزينة عن 3 في المئة، وصل العائد على السندات الأمريكية الرديئة إلى 7.2 في المئة، بزيادة أكثر من 1.5 في المئة في العام الأخير فقط. ويصل حجم سندات الشركات إلى نسبة 73.5 من الناتج المحلي الإجمالي، أما في الصين فالنسبة تتجاوز حجم الاقتصاد. وقد وصل العائد على بعض السندات الرديئة إلى أكثر من 12 في المئة. والمشكلة في ذلك أن عمليات المقاصة أصبحت تقترب من وضع «المجزرة»، فبدلاً من تداول سند دين قيمته دولار مقابل أقل من دولار بسنت أو سنتين، أصبحت مراكز مقاصة مثل جيه بي مورجان مضطرة للتداول في السند بنحو 93 سنتاً للدولار.
مع ذلك لم تصدر جيه بي مورجان مثلاً حتى الآن مذكرة تسير إلى «ركود» عالمي. وما زال البعض يرى أن الوضع الحالي ليس بخطورة حالة مصرف ليما براذرز الاستثماري الأمريكي الذي كان انهياره شرارة الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأنه ربما كان أقرب إلى انهيار أسهم شركات الإنترنت عام 2001 الذي أدى إلى ركود في إطار نظام الدورات الاقتصادية للصعود والهبوط ولم يخلف أزمة عميقة مثلما فعلت الأزمة الأخيرة.


* كاتب صحفي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"