جدل جزائري

05:40 صباحا
قراءة 5 دقائق

عاشت الجزائر جدالاً لا يخلو من بيزنطية بمناسبة الحديث عن تعديل الدستور. وعلى الرغم من أن مضامين هذا التعديل قد تناولت قلب النظام، وغلبت طابعه الرئاسي، وحولت رئيس الحكومة إلى مجرد منسق لعمل الوزراء، وألزمته بتنفيذ البرنامج الرئاسي، فإن الجدال ارتكز على إلغاء قيد الولايتين الرئاسيتين، وفتح الباب أمام رئيس الجمهورية ليترشح إلى أكثر من ولايتين رئاسيتين. وحتى على هذا المستوى، فإن الجدال لم ينصب على الجانب السياسي وعلى ما ينفع البلاد على المديين القريب والمتوسط، بل اقتصر على الجانب الشكلي. واستخدم المتقابلون فيه نفس الاتهامات ضد بعضهم بعضاً. وهكذا زعم المدافعون عن التعديل أن المادة 74 المتعلقة بعدد الولايات الرئاسية، والتي أقرت من قبل استفتاء شعبي عام غير مطعون في نزاهته، وتتضمن العديد من دساتير البلدان الديمقراطية العريقة مثيلاً لها، هي مادة غير ديمقراطية لأنها تتدخل في اختيار الشعب لقادته. ومن جهتهم اعتبر المعارضون أن تعديل هذه المادة بوسائل قانونية وديمقراطية يتضمنها الدستور نفسه، واعتماد مادة بديلة لا تحدد عدد الولايات الرئاسية وتوجد لها، هي الأخرى، مثيلات في العشرات من دساتير العالم، اعتبروا ذلك منافياً للديمقراطية.

وما إن خرجت الجزائر من هذا الجدال العقيم، بعد إقرار التعديلات الدستورية من طرف غرفتي البرلمان مجتمعتين في منتصف الشهر المنصرم، حتى وجدت نفسها أمام جدالات لا تقل عقماً. وفي هذا السياق، قدم الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد مادة تثير من المشاكل والحساسيات أكثر ما تكشف وتوضح من الحقائق. وكان هذا الأخير الذي التزم صمتاً شبه تام منذ إجباره على الاستقالة من رئاسة الجمهورية في فبراير/ شباط من سنة ،1992 قد فاجأ الكثيرين عندما قبل المشاركة في ندوة تاريخية نظمها قدماء مجاهدي الثورة الجزائرية في مدينة الطارف في الثامن والعشرين من الشهر المنصرم.

ولم تقف المفاجأة عند مشاركة الشاذلي في الندوة التي احتضنتها المدينة التي ولد فيها، وحضرها حوالي ألف شخص، بل تركزت على المحاضرة الطويلة التي ألقاها على غير عادته، وعلى ما ورد فيها من تصريحات تم تلقفها وتأويلها وتضخيمها.

وتوقفت وسائل الإعلام المحلية والأجنبية ملياً عند اتهام الرئيس الجزائري الأسبق للرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم بعده. وكان الشاذلي قد قال في هذا الصدد إن هؤلاء الرؤساء يؤدون اليمين، فيضعون أيديهم فوق المصحف، ويقسمون بأن يحترموا الدستور، ولكنهم يفعلون العكس.

وتم تأويل هذا القول باعتباره هجوماً على الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة الذي تحمل مسؤولية تعديل الدستور الجزائري المعمول به منذ أواسط العقد الماضي.

والواقع أن مثل هذا الاتهام لا يفيد في شيء، ويثير من الغموض أكثر مما يوضح من الحقائق. لأنه لم يحدد الرؤساء الذين يتهمهم، ولم يعرض الممارسات والأعمال التي يستند إليها الاتهام. ولا شك في أن الذين اعتبروا الاتهام المذكور موجهاً ضد بوتفليقة لا يتوفرون على ما يثبت ذلك. إذ من البدهي أن تعديل الدساتير، وفقاً للقواعد المنصوص عليها، يعتبر ممارسة ديمقراطية عادية.

وإذا تم اعتبار تعديل الدساتير انتهاكاً لها وحنثاً بالقسم المتعلق باحترامها، فإن أكبر منتهك للدستور في الجزائر سيكون هو الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد نفسه الذي كان وراء إلغاء دستور ،1976 الذي كان يحكم في إطاره، واستبداله بدستور 1988 الذي وضع حداً للحزب الوحيد وأقر التعددية.

وبعد أسبوع على الزوبعة التي أثارها اتهام الشاذلي للرؤساء الذين تعاقبوا بعده، يتفضل الرئيس الجزائري الأسبق بنشر توضيح ورد فيه أنه ليست له النية في التأثير في الحراك السياسي الحالي.

ومعنى ذلك أنه لم يوجه اتهامه إلى الرئيس بوتفليقة، فلمن يوجه هذا الاتهام يا ترى؟ هل للرئيس الراحل بوضياف الذي لم يحكم إلا بضعة شهور، أم للرئيس علي كافي الذي لم يكن إلا رئيساً رمزياً لمجلس الدولة، أم للرئيس زروال الذي ترك رئاسة الدولة سنة 1999 زاهداً فيها لا مجبراً على مغادرتها؟

وتوقفت وسائل الإعلام المحلية والأجنبية كذلك أمام دفاع الشاذلي عن التجربة السياسية التي زج بالجزائر فيها ما بين نهاية 1988 وبداية ،1992 ولم تلتقط وسائل الإعلام المذكورة ما يفيد في الكشف عن ملامح تلك التجربة والجهات التي ساهمت في هندستها، والحسابات التي استندت إليها تلك الجهات، لأن الشاذلي لم يعرض المعطيات الضرورية لذلك. وفي المقابل التقطت تلك الوسائل ما ورد من أقوال هذا الأخير عن إرادته في إقامة نظام برلماني وفي استبدال الشرعية التاريخية ب الشرعية الشعبية ورأت في ذلك، مرة أخرى، هجوماً على الرئيس بوتفليقة المتشبث بتعزيز النظام الرئاسي.

وإذا تذكرنا التوضيحات الأخيرة للشاذلي التي تستبعد نيته في التأثير في الحراك السياسي الجزائري الجاري، فإننا نتساءل مرة أخرى عن الهدف من كل هذه الجلبة.

ولم يقتصر توجيه شظايا أول خروج للرئيس الجزائري الأسبق على الرئيس الجزائري الحالي، ورأى الجنرال المتقاعد خالد نزار أن بعض تلك الشظايا موجهة إليه، ومنها ما يتعلق بتهمة التجسس على الثورة الجزائرية لمصلحة فرنسا من طرف بعض الضباط الجزائريين في الجيش الفرنسي الذين التحقوا بتلك الثورة، ومنها كذلك ما يتعلق بتجربة سنوات 1988 - 1992.

ولم يتورع خالد نزار عن مهاجمة الرئيس الجزائري الذي عينه وزيراً للدفاع، مؤكداً أن من يتهمه بالعمالة لفرنسا هو الذي أقره مساعداً له خلال حرب التحرير، ثم عينه وزيراً للدفاع سنة ،1990 وأعلن الجنرال المتقاعد في توضيحات نشرتها بعض الصحف الجزائرية في الرابع من الشهر الجاري، أنه كان معارضاً لتولي الشاذلي رئاسة الدولة بعد وفاة الراحل هواري بومدين، واتهمه بأنه أحاط نفسه بالرداءة في الجيش كما في الرئاسة منذ وصوله إلى الحكم، وبأن قراراته كانت تفوح منها رائحة ومصالح العصب على حساب مصلحة الدولة، واعتبره مسؤولاً عما حدث ما بين 1988 و،1992 ومهد للسنوات السود خلال العقد الماضي.

ويبدو أن الزوبعة التي أثارتها أقوال الرئيس الجزائري الأسبق وتأويلات بعض وسائل الإعلام وبعض الشخصيات والجهات السياسية، أدت إلى توترات لا حاجة للساحة السياسية الجزائرية إليها، وأحيت مشاكل كاد يطويها النسيان. وفي هذا السياق يمكن ذكر الاتهامات التي وجهها الجنرال المتقاعد إلى الرئيس الأسبق بخصوص تحالف هذا الأخير مع بعض الأصوليين، ومن بينهم من كان مسؤولاً في حزب جبهة التحرير، وذلك من أجل محاربة الشيوعيين في وقت كان فيه المتطرفون الاسلاميون يحضرون للعنف المسلح.

والمعروف أن استخدام بعض التيارات الدينية لمحاربة الشيوعيين واليساريين كان سياسة معتادة لدى حكام الجزائر، ولدى العديد من حكام البلاد العربية، ولم تكن وقفاً على حكم الرئيس الجزائري الأسبق. والمعروف كذلك أنه كان يجري قلب تلك السياسة أحياناً باستخدام الشيوعيين واليساريين في محاربة بعض الحركات الإسلامية.

وإذا كان الشاذلي قد حاول أن يهدئ الأمور، ويوقف العاصفة التي أثارها بقصد أو من غير قصد، وذلك حين أوضح أنه لا يستهدف الحكم القائم، وأنه لم يتهم الجنرال المتقاعد بالتجسس لمصلحة فرنسا، فإنه فجر، في نفس التوضيح قنبلة ضد الرئيس الجزائري الأول أحمد بن بلة، متهماً إياه بمسؤولية اغتيال العقيد محمد شعباني الذي قاد سنة 1963 مع حسين آيت أحمد تمرداً بمنطقة القبائل.

والمأمول أن يكون حظ الجزء الأول من مذكرات الشاذلي بن جديد - الذي ينتظر الصدور - في الإفادة والتنوير أفضل من حظ محاضرته في مدينة الطارف، ومن حظ التوضيح الذي نشرته الصحافة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"