جدول أعمال ما بعد الحرب

05:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

كما في حرب تموز/يوليو 2006 على لبنان ومقاومته، كذلك في الحرب على غزة والمقاومة في القطاع 2008 - ،2009 فقد انتهت كل من الحربين الى تضارب الاجتهادات حول تقييم النتائج، والى تباين الرؤى السياسية حول مرحلة ما بعد الحرب.

مع اختلاف التقديرات في الجانب الفلسطيني لما حدث، فثمة مساحة واسعة من الاتفاق على أن الحرب العدوانية استهدفت شعب فلسطين، بما يتجاوز تنظيماً بذاته أو مجموعات المقاومة بأسرها، وأنها اتخذت طابع حرب إبادة وتطهير، بما يكشف الخطورة المتزايدة لحركة صهيونية متجددة، وفية لجذورها الأولى في اسئصال وجود شعب وتدمير مقومات حياته، لضمان تطبيق الحلم الصهيوني على أرض شعب آخر، وعلى أنقاض شعب آخر.

بهذا كانت حرباً وجودية بما هي حرب على الوجود المادي والسياسي للطرف المستهدف، وليست مجرد شكل من أشكال التصعيد العسكري. وبما يؤشر على أن انفلات دولة الاحتلال قد اتخذ وجهة جديدة، فالحرب التي أطلقوا عليها الرصاص المسكوب، أسست لمستوى جديد من إرهاب الدولة، ولا يعود مستغرباً بعدئذ أن تتكرر هذه السابقة بعد أن انتقل الأداء إلى هذا المستوى.

ذلك يملي على الجانب الفلسطيني أخذ هذا المستجد في الاعتبار، وذلك في ضوء الإدانات المحدودة للجرائم المتعمدة ضد المدنيين، ومع صعود القوى الأكثر يمينية إلى المسرح السياسي في تل أبيب، بعد الانتخابات الأخيرة حيث بات التنافس السياسي يدور بين مكونات المتطرفين، وليس بين هذا المعسكر وسواه. ومعسكر التطرف هو من خطط وقاد الحرب الأخيرة وصفق لها.

الاستخلاص الثاني أن تلك الحرب هي حقاً الأولى تدور بين الداخل الفلسطيني وجيش الاحتلال. هناك ما لا يحصى من مواجهات وعمليات فدائية ومناوشات مسلحة سابقة منذ اندلاع المقاومة قبل أربعة وأربعين عاماً، ثم منذ انبثاق السلطة كأول كيان سياسي على أرض الوطن قبل خمسة عشر عاماً، إلا أن هذه الحرب امتازت بمواجهة شاملة وطويلة نسبياً (22يوماً) ولم يتمكن خلالها العدو من إعادة احتلال القطاع أو أجزاء منه، واضطر الى التكتم على خسائره وإقصاء شهود العيان الإعلاميين عن مسرح العمليات.

انتهاء الحرب بعدئذ الى التفاوض غير المباشر حول التهدئة، ثم حول فتح المعابر ورفع الحصار (البحري مثلاً)، كرس التوازن القتالي النسبي، ثم التوازن السياسي مع العدو. وهذا إنجاز يعتد به ويستحق بالطبع توطيده واستكماله.

ذلك يتطلب توحداً عسكرياً، يواصل أفضل ما اتسمت به الحرب من التوحد الميداني لسائر المقاتلين من سائر التنظيمات، والتمسك بخيار الاحتفاظ بالتشكيلات المقاتلة أياً كانت مسمياتها. وصولاً الى جعل قرارات السلم والحرب بيد قيادة جماعية موحدة، وهذا ما ينبغي أن يكون مآل الاتفاقيات المبرمة بين الفصائل في القاهرة برعاية مصرية.

وفي النهاية فإن هذا الاستخلاص هو أكثر أهمية من التباينات حول تقييم الحرب، التي يصح وصفها بأنها عكست صموداً فلسطينياً وتحسناً ملحوظاً في الأداء، لكن أياً من طرفي الحرب لم يبلغ أهدافه المعلنة، لدى الإعلان عن وقف إطلاق النار في الثامن عشر من يناير/كانون الثاني الماضي. هذا التوازن السلبي يسجل لمصلحة الطرف الفلسطيني. وإذ يسجل على العدو وحشيته وجبنه في استهداف المدنيين، فإنه يسجل على الجانب الفلسطيني انه اخفق أو أغفل تظهير هذا الجانب في إدارته للمواجهة السياسية، فمن المحظور اعتبار الخسائر الهائلة في صفوف المدنيين على أنها مجرد تفاصيل مقارنة بمجرى الحرب بين جيش ومجموعات المقاومين، فمعادلة المقاومة تستقيم بالكفاح لتحرير الأرض وحماية الانسان معاً. ومن المفيد التوقف عند سلوك العدو في سعيه لحماية كل فرد من أفراده مدنياً كان أم عسكرياً، وفي استعادة كل فرد سواء كان حياً أم قتيلاً.

من الدروس الباقية التي تستحق الوفاء بها، التجند لإعمار القطاع. واعتبار ذلك معركة أخرى للبرهنة على حق الشعب في الحياة والعمران، وإعادة بناء ما هدمته الحرب الوحشية. ليس ذلك تفصيلاً، ولا هو بمثابة استحقاق قابل للوفاء به بالتدريج ومع مضي الوقت، والركون الى مقولة إرادة شعبنا في الحياة والبناء. فالشعب يستحق تعويضه والوقوف الى جانبه من سائر الشعوب والدول التي تناصر الحق في الحياة والكرامة. إن إعادة العمران هي بمثابة تحدٍ وميدان من ميادين المواجهة، مع عدو عنصري لا يرى قيامة له إلا على أنقاض الآخرين. ومن منطق الأمور ألا يتم تسييس هذا الملف، وألا يتمتع طرف داخلي أو خارجي بثمن سياسي مقابل المشاركة بالإعمار.

لقد تم دفع تضحيات هائلة في تلك الحرب، ومن أوجب الواجبات تعويض الأهالي عن بعض ما فقدوه، في التوحد السياسي والقتالي، وحُسن إدارة المواجهة السياسية مع العدو بتعظيم المكاسب وتثبيتها والحد من الخسائر، وعودة الروابط والتواصل بين شطري الوطن، والمضي في إعادة الإعمار وعدم ترك الناس يتابعون في العراء مناقشات فئوية لا تنتهي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"