حرب باردة برسم التسخين

04:37 صباحا
قراءة 4 دقائق

الحرب الباردة عادت . لعلها لم تهدأ أبداً وإن تباطأت وتيرتها . قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت الحرب الباردة مستعرة بين غربٍ بقيادة أمريكا الرأسمالية وشرقٍ بقيادة روسيا الشيوعية، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، انهارت معه الحرب الأيديولوجية بين المعسكرين . صراع الأيديولوجيات كان، في الواقع، غطاء لصراع المصالح، واليوم حلّت التكنولوجيا محل الأيديولوجيا كمظهر وجوهر لصراع المصالح، واللاعبون الكبار لم يتبدلوا، مازالوا هم أنفسهم: أمريكا وأوروبا (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى .

للحرب الباردة وجه ساخن أيضاً، والسخونة محسوبة ومحدودة، وهي مضبوطة دائماً برغبة اللاعبين الكبار في التوصل إلى تسوية سياسية .

سخونة الحرب الباردة لا تتموقع أبداً داخل الدول الكبرى، إذ لها دائماً ساحات إقليمية يجري اختيارها بعناية ليتنفس فيها اللاعبون الكبار والصغار . من أبرز الساحات الإقليمية الشرقُ الأوسط حيث يوجد وينشط لاعبو المرتبة الوسطى كإيران وتركيا وإسرائيل، وإلى هؤلاء، ثمة لاعبون صغار ليسوا دولاً بل ينشطون من خلال دول وقد يسيطرون على بعضها . أبرز اللاعبين الصغار حركة المقاومة في لبنان، وفصائل المقاومة في فلسطين المحتلة وخارجها، والتنظيمات الإسلامية بمختلف تلاوينها، من تنظيم القاعدة المحارب إلى التنظيمات الصوفية المسالمة . هؤلاء جميعاً لاعبون صغار بالمقارنة مع الدول الكبرى، لكن بعضهم ليس صغيراً البتة من حيث الفعالية . أليس صدّ وكسر حرب 2006 الإسرائيلية العدوانية على لبنان وحرب 2008 الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة خير مثالين على فعالية المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية؟

الحرب الباردة عادت، واللاعبون الكبار كما الصغار آثروا التبكير في تسخين بعض ساحاتها، أكثرها سخونة اليوم سوريا . ضبط سخونتها استدعى لقاء قمة بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين على هامش مؤتمر الدول العشرين في المكسيك . لا أحد يعرف بدقة على ماذا اتفقا أو اختلفا، ربما يتضح الأمر في اجتماع مجموعة الاتصال بشأن سوريا في جنيف في 30 الشهر الجاري . من المعلوم أن اجتماع مجموعة الاتصال كان اقترحه المبعوث الأممي كوفي عنان، والمتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة مارتن نسيركي أكد أن بان كي مون لا يمانع في مشاركة إيران في اجتماع مجموعة الاتصال، هذا من شأنه تسهيل عقد الاجتماع .

وإذْ تتصاعد سخونة الحرب الباردة في الساحة السورية، تنتقل بالعدوى أو بالتأثير المتبادل إلى الساحة اللبنانية، فلبنان كان دائماً ساحة خلفية لكل الحروب الباردة والساخنة التي اندلعت في الشرق الأوسط، والجديد في الموضوع أن ثمة ما يشير إلى أن جهة أو جهات إقليمية ودولية تستعجل تسخين الساحة اللبنانية من طريق زج المخيمات الفلسطينية في صدامات مع الجيش اللبناني . رئيس حكومة لبنان السابق سليم الحص حذّر من أن الغاية المتوخاة من توريط الجيش اللبناني في الاضطرابات الأمنية الناشطة في شمال لبنان وشرقه هي إكراهه على التزام ثكناته بدعوى تجنيبه الاتهام بأنه يحابي أنصار مذهب معين على حساب مذهب آخر .

ليس سراً أن الجيش اللبناني انكفأ في الشمال ولم تعد وحداته تغطي مساحات واسعة من منطقة الحدود اللبنانية السورية . ثمة من يذهب إلى الإدعاء أن الإمرة في بعض نواحي تلك المنطقة أصبحت لمسؤولي الجيش السوري الحر .

الوضع في شمال لبنان، رغم حساسيته الأمنية، ليس مقلقاً . . . بعد . القلق المستجد مبعثه جنوب لبنان، مخيم عين الحلوة تحديداً، القريب من صيدا . قيادات فلسطينية بارزة في المخيم المذكور كشفت لصحيفة السفير (20/6/2012) أن طرفاً ثالثاً دخل على خط الإشكال، وهو من أطلق النار على الجيش اللبناني والمخيم الفلسطيني معاً من أجل جرّ الطرفين إلى المواجهة .

من له مصلحة في جرّ الطرفين إلى الصدام؟

تتعدد التكهنات دونما قدرة على توفير أدلة واضحة تدل على جهة معينة، غير أن المحللين السياسيين يجمعون على أن الجهة الوحيدة التي لها مصلحة في قيام فتنة في منطقة صيدا هي إسرائيل ومن يسير في ركابها . ذلك أن اندلاع فتنة في صيدا وسيطرة قوى متطرفة عليها معادية للمقاومة قد يؤديان عملياً إلى فصل الجنوب عن وسط لبنان وشرقه . هذا ينعكس سلباً على الإمداد اللوجستي للمقاومة .

التوتر والصدامات المستجدة بين الجيش اللبناني ومخيمات الفلسطينيين في الشمال والجنوب، ستكون في رأس جدول أعمال طاولة الحوار الوطني في الجولة الثانية المقررة يوم الاثنين المقبل .

إلى لبنان، ثمة ساحة أخرى للحرب الباردة قد يصار إلى تسخينها، إنها شبه جزيرة سيناء المصرية وقطاع غزة، ذلك أن وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك قال إن السيطرة على ما يحدث في سيناء أصبحت هشة للغاية، مصادر عسكرية إسرائيلية رفيعة كشفت لصحيفة معاريف (19/6/2012) أن منطقة سيناء تتحول بالتدريج إلى جنوب لبنان آخر . ذلك أن المداولات التي جرت في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية خلال الأيام القليلة الفائتة تضمنت تقديرات فحواها أن السيطرة المتوقعة لحركة الإخوان المسلمين على مقاليد السلطة في مصر من شأنها أن تؤدي إلى تصعيد التوتر في منطقة الحدود المصرية الإسرائيلية وقطاع غزة لأن السلطة المصرية الجديدة ستكون أكثر انشغالاً بالأوضاع الداخلية .

إلى ذلك، يتخذ الصراع بين أمريكا وأوروبا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، أشكالاً جديدة قديمة مستمدة من تراث الصراع في عصر الحرب الباردة الغابرة . فقد ترددت أخبار عن مناورة بحرية ستجريها في شرقي المتوسط سفن حربية لروسيا والصين وسوريا، كما ترددت أخبار عن أن سفينتي الإنزال قيصركونيكوف ونيقولاي فيلتشينكوف توجهتا إلى طرطوس لإنزال فريق من مشاة البحرية المخصص لحراسة القاعدة البحرية الروسية على الساحل السوري، صحيح أن موسكو نفت كلا الخبرين، لكن بعد أن كانت الغاية المتوخاة منهما قد تركت أثرها المطلوب في سوريا والمنطقة .

المحصلة؟ ليس اللاعبون الصغار وحدهم في ساحات الصراع الشرق أوسطية، فثمّة لاعبون كبار حريصون على تذكير الجميع بأنهم مازالوا، كما كانوا دائماً، أسياد لعبة الأمم .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مُجاز في الحقوق ودكتور في القانون العام ومحام منذ السبعينات .. أستاذ محاضر في القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية زهاء عشر سنوات .. نائب ووزير سابق .. له مؤلفات عدة وعديد من الأبحاث والدراسات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"