لماذا لا توفر فرنسا قضاءها؟

05:42 صباحا
قراءة 5 دقائق

لم تنجح فرنسا حتى الآن في دفع التهم الخطيرة التي وجهتها إليها لجنة تحقيق رواندية أصدرت في منتصف هذا العام تقريرا مرعبا عن الدور الفرنسي في الإبادة التي أودت بحياة حوالي 800 ألف من اثنية التوتسي في رواندا ومن مواطنيهم الهوتو المعتدلين. وأوضح التقرير الذي شارك في إعداده أكاديميون مشهود لهم بالكفاءة والموضوعية معتمدين على كم كبير من الوثائق الرسمية، أن التورط الفرنسي لم يقتصر على العسكريين الذين كانوا يدعمون حكم الهوتو بقيادة الرئيس الراحل هابياريمانا، بل تورط فيه سياسيون فرنسيون من اليمين واليسار كانوا يتعايشون في حكم فرنسا في أوائل تسعينات القرن المنصرم.

و الجدير بالذكر أن الحديث عن التورط الفرنسي في مذابح رواندا لم يقتصر على نظام الرئيس بول كاغامي الذي حكم رواندا بعد هزيمته لمتطرفي الهوتو، بل توفقت لجنة تحقيق برلمانية فرنسية في التطرق إليه قبل عشر سنوات من دون أن يتوافر لها حينئذ الكم الهائل من الوثائق والحجج الذي توافر في السنوات الأخيرة للجنة التحقيق الرواندية.

وبدل أن تعمد السلطات الفرنسية إلى التعبير عن أسفها ولو مبدئيا، وأن تتحاور مع نظيرتها الرواندية، وأن تقوم بمعيتها بتحقيق مشترك ينصف الحقيقة من جهة، ويعزز علاقات التعاون المستقبلي من جهة ثانية، بدل ذلك اندفعت باريس في استخدام قضائها للتهرب من الاتهامات وبوضع متهميها في قفص الاتهام. وفي هذا السياق أصدرت منذ سنتين مذكرات اعتقال دولية في حق عدد من كبار المسؤولين الروانديين تتهمهم بالتورط في مقتل الرئيس هابياريمانا الذي أسقطت طائرته في السادس من أبريل/ نيسان من سنة ،1994 وانطلقت إثر ذلك المذابح ضد التوتسي.

ولم يكتف القضاء الفرنسي بإصدار مذكرات الاعتقال سالفة الذكر، بل انتقل إلى التنفيذ وطلب اعتقال مديرة بروتوكول الرئيس الرواندي التي كانت، في أوائل الشهر المنصرم تزور ألمانيا، وأخضعها بعد استقدامها من فرانكفورت إلى باريس، للإقامة الجبرية في انتظار محاكمتها.

وفي الوقت الذي كانت توجد فيه المسؤولة الرواندية رهن إشارة القضاء الفرنسي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حول رواندا، التي تتخذ من مدينة أروشا النيجيرية قاعدة لها، حكما بالإدانة والسجن المؤبد ضد من يعتبر العقل المدبر للمذابح ضد التوتسي، ويتعلق الأمر بالعقيد تيونيست باغوزورا. ويعتبر هذا الضابط صناعة فرنسية ليس فقط باعتباره خريج مدرسة الحرب الفرنسية، بل وكذلك باعتبار ارتباطه الوثيق بالفرنسيين الذين شكل في سفارتهم بالعاصمة كيجالي حكومة من المتطرفين الهوتو بعد مقتل الرئيس هابياريمانا سنة 1994.

أما قصة فرنسا مع الجزائر فهي أشهر من النار على علم، وسجل فيها العسكريون والمدنيون الفرنسيون أعمالا وحشية ضد أبناء الأرض التي كانوا يعتبرونها ترابا فرنسيا. ولم يتحدث الوطنيون الجزائريون وحدهم عن المذابح الفرنسية المرتكبة ضد شعبهم في مناسبات عديدة، ومنها مذبحة سطيف في الثامن من مايو/ أيار من سنة ،1945 والمذابح التي تعرض إليها الجزائريون خلال الثورة الوطنية، ولم يتحدث عن تلك المذابح بعض المناضلين الفرنسيين الحقيقيين فقط، بل تحدث عنها بعض مرتكبيها والوالغين فيها مثل الجنرال أوسير الذي مجدها في مؤلفات تروج في السوق.

وبدل أن تبادر السلطات الفرنسية، التي تطالب دولا وأمما أخرى بالاعتذار لضحاياها، بتقديم الاعتذار للشعب الجزائري على ما ألحقته به من ظلم هربت إلى الأمام وحاولت أن تمجد ما اقترفته من مظالم في نص قانوني صادق عليه البرلمان، واستدرك أمره الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك. وبالإضافة إلى ذلك شنت باريس هجوما مضادا على الجزائر بدعوى الدفاع عن الجزائريين الذين قاتلوا إلى جانب فرنسا ضد أشقائهم.

ولكن الجديد في الأمر هو استخدام القضاء الفرنسي في تصفية الحسابات التاريخية. وفي هذا السياق اتهم هذا القضاء الدبلوماسي الجزائري محمد زيان الحسني بالضلوع في مقتل المعارض الجزائري الراحل السيد علي المصيلي الذي جرى بباريس سنة 1987. ولم يقف الأمر عند حدود توجيه الاتهام بل تم اعتقال الدبلوماسي الجزائري في الرابع عشر من أغسطس/ آب الماضي، ووضع رهن الإقامة الجبرية، ومازال في هذا الوضع إلى اليوم في انتظار ما سيقرره القضاء الفرنسي على ضوء الضغوط السياسية الجارية.

وإذا كان الدفاع عن قتلة الراحل المصيلي لا يمكن أن يخطر لنا على بال، فإن استخدام هذه القضية من قبل الفرنسيين الذين يتهربون من الاعتراف بجرائم أكبر وأشنع لا ينبغي أن ينطلي على أحد، وخاصة أن الاتهام في هذه القضية يستند إلى شهادة وحيدة تحوم حولها الشكوك، ويحاول صاحبها التهرب من حضور المحاكمة للإدلاء بها كونه مطلوبا من الشرطة الدولية بسبب مذكرة اعتقال صادرة في حقه.

وبعد المحاولات الجزائرية الودية لتسوية الموضوع، بدأ المسؤولون الجزائريون يفقدون صبرهم. وقد أصدرت خارجيتهم في الحادي عشر من الشهر الجاري بلاغا تنتقد فيه بطء الإجراءات القضائية الفرنسية. وإلى جانب هذا البلاغ صدرت تصريحات جزائرية قوية اعتبر فيها وزير الخارجية أن فرنسا بلاد حقوق الإنسان تحتجز أحد أفضل دبلوماسيينا رهينة. أما وزير التضامن الجزائري فقد قال غاضبا إن بلاده ليست جمهورية موز بل إنها دولة ذات سيادة، وهدد بأن بلاده لن تسمح بالإهانة، ولايمكن، في هذا الباب، استبعاد الإجراءات الاقتصادية المضادة.

ويمكن في إطار التهرب الفرنسي من الاعتراف بالسيئات، والإصرار على التظاهر بمظهر الوصي ومقدم الدروس، أن ندرج الحكم الذي أصدرته في الثاني عشر من الشهر الجاري محكمة ستراسبورغ الفرنسية غيابيا بالسجن ثمانية أعوام ضد نائب القنصل التونسي بالمدينة، المتهم بتعذيب زوجة أحد المعارضين التونسيين في مدينة جندوبة سنة 1996 حين كان الدبلوماسي المذكور يشتغل فيها عميد شرطة.

ودون إنكار حق السيدة التونسية التي التجأت إلى القضاء الفرنسي المتمتع بصلاحيات عالمية تسمح له بالنظر في القضايا المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان أينما ارتكبت وكيفما كان مرتكبوها، ودون تبرئة الدبلوماسي التونسي، فإن اعتماد المحكمة الفرنسية فقط على شهادات عامة لمعارضين تونسيين وحقوقيين فرنسيين، لإصدار حكم إدانة وسجن بثمانية أعوام يعبر عن استهتار كبير.

ولكن ما يكشف نفاق السلطات السياسية والقضائية الفرنسية في موضوع حقوق الإنسان والانتهاكات التي يتعرض لها الأفراد والجماعات، هو الموقف السلبي الفرنسي من قضية اختطاف واغتيال المعارض المغربي المهدي بن بركة في التاسع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني من سنة ،1965 ولا يقف هذا الموقف السلبي عند حدود استمرار رفض السلطات الفرنسية رفع الحظر عن الوثائق المتعلقة بتلك القضية رغم مرور أكثر من أربعين عاما عليها، بل يمتد إلى التقاعس عن تحريك مذكرات الاعتقال الدولية في حق بعض المتهمين المغاربة في تلك القضية.

ومن المستبعد أن يكون الموقف الفرنسي سالف الذكر ناتجا عن تقدير خاص للمسؤولين المغاربة أو للمصالح المغربية. ومن غير المستبعد أن يكون هذا الموقف نابعا من رغبة التستر على تورط محتمل في تلك القضية لعدة أطراف من بينها اسرائيل وفرنسا نفسها.

ويبدو في ضوء ما سبق أن الاستخدام السياسي للقضاء الفرنسي بالإضافة إلى أنه لا يسوي المشاكل السياسية، فإنه يسيء كثيرا إلى القضاء المذكور.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"