مستقبل العرب أم العروبة؟

05:10 صباحا
قراءة 4 دقائق

ليست العروبة كياناً مادياً ولا نظاما قائماً ولا مؤسسة، حتى يجري فحص أدائها والتعرف إلى أوجه الإخفاق والنجاح في مسارها، وصولاً إلى استشراف مستقبلها . وفي التحديق بمفهوم العروبة تنتصب مثالات من الماضي، ومشاعر دفينة نحو هذه الرابطة المعنوية والوشيجة الثقافة ذات العمق التاريخي، غير ان الحاضر لا يسعف في رسم تصورات هيكلية عن تجسد هذه الرابطة . فالكيانات السياسية القائمة وهي ثمرة الاستقلالات تعظم الهويات المحلية، التي تُبقي على العروبة إطاراً لها، لكننا نعرف أن الصورة هي ما يعكس الواقع بأكثر مما يفعل الإطار . وفيما شهدت مراحل الكفاح ضد الاستعمار والتسلط الأجنبي أشكالاً من التوحد، فإن قيام الكيانات المستقلة وضع حداً شبه نهائي لذلك التوحد منذ نحو ستة عقود . فالعرب ينصرون إخوة لهم في التحديات، لكن كلاً منهم لا يلبث أن يؤوب إلى مستقره داخل حدوده الضمنية أو المنظورة: موطنه وعشيرته، ويقيم حياته المستقلة بما يمتلك من موارد ذاتية معنوية ومادية، وكما كان حال القبائل في عصور خلت .

بعد مضي ستة عقود وأكثر على الاستقلالات وعلى إنشاء جامعة الدول العربية (لا الجامعة العربية) فقد نجحت الكيانات بأشكال مختلفة في تفريغ هذه المؤسسة، وهي الوحيدة الجامعة ولو نظرياً، من أي دور لها يخترق الحسابات الذاتية والمصالح الخاصة بهذا الكيان أو ذاك . وبينما القانون الدولي يتقدم في النفاذ على القوانين الخاصة بهذه الدولة او تلك في عالمنا، فإنه لا شيء في عالمنا العربي يتقدم على الاعتبارات الذاتية لكل دولة . وبعدئذ فقد أخفقت التيارات القومية في موضعة العروبة في أنظار الرأي العام (المادة البشرية للعروبة) كرابط سياسي جامع وجاذب، يدفع بالمطامح الوطنية للتلاقي في صيغة قومية ذات محتوى واقعي قابل للتحقيق . وها هم الملايين من الأجيال الجديدة في مشارق الوطن العربي ومغاربه، لا يستشعرون معنى للعروبة، يتعدى اللغة العربية وثقافتها وأسواق العمل ومناطق السياحة . أصبح الوطن العربي على هذا النحو أقرب إلى ناطق بلغة واحدة، مع جدران وحواجز تنتصب بين مكوناته ، ولا تقل صلابة عن تلك الحدود القائمة بين الناطقين بالإسبانية وينتمون في الوقت ذاته إلى مملكة إسبانيا وإلى دول أمريكا اللاتينية، أو تلك القائمة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة التي يتحدث مواطنوها هنا وهناك بالانجليزية . علما بأن الروابط الفعلية السياسية والاستراتيجية أقوى لديهم في حالة المثال الثاني، مما هي لدينا رغم الفوارق القومية .

من الأوهام الضارة التي تكاد تبلغ مبلغ العبث، الاتكال على مجرد تجييش المشاعر نحو رابطة ثقافية ذات عمق وجداني، مع إغفال الاخفاق المريع في التحقق السياسي والحضاري لهذه الرابطة على الأرض وفي وعي البشر، اذ الاستمرار على هذا النهج يحول هذه الرابطة إلى ما يشبه التعويذة والتميمة السحرية . فالعرب يفشلون منذ عقود فشلا مضاعفاً، مرة في البرهنة على استعدادهم لتنظيم عمل جماعي بينهم، عبر تظهير المشتركات والسعي لتعظيمها، ومرة ثانية في إدارة الظهر لخبرات العصر في التوحد والمتمثلة أساساً في الرهان على الاستقلال السياسي والتقدم الاقتصادي والقانوني والمؤسساتي، وتحقيق مشاريع متدرجة ترسي التواصل والتكامل على أسس صلبة ثابتة، غير قابلة للتراجع عنها مع هبوب أول رياح قد تبدو في أنظار البعض غير مواتية .

لقد برهنت العقود الماضية على ألا مطامح توحدية قابلة للتحقق، ما دام التخلف يرخي بظلاله على عالمنا العربي بصور شتى . هذه المطامح هي ما يضفي على العروبة معناها ويملأ وعاءها . غير أن أحداً في الاجيال الجديدة، التي استيقظ وعيها على حطام الأحلام القومية، لا يطمح إلى استعارة الإخفاق الاقتصادي المستفحل أو أنماط الاستبداد أو الفراغ المؤسساتي أو وهن الإرادة السياسية، ثم صهر هذه المآثر في بوتقة واحدة . مع ذلك فإن أطرا جامعة تتجدد وتتسع بفضل مبادرات غير رسمية وأحيانا مختلطة بين أهلية ورسمية كما في ميادين الثقافة والإعلام والأعمال والسياحة والتعليم والرياضة والطبابة .

مثل هذه الميادين هي التي تجمع عملياً بين العرب بينما تشتد وطأة الحدود والحواجز السياسية بينهم، مع ملاحظة أن غالبية هذه الميادين تجمعهم بغير العرب وتدفع أبصارهم كما مشاعرهم للنظر والتوجه خارج العالم العربي . ولا غضاضة في ذلك في عالم ترتفع فيه الحدود بين قاراته، غير أن المشكلة تبقى في العجز عن اجتذاب العربي إلى العالم العربي حضوراً وانتماء وحرية في التواصل والتفاعل . ولا فائدة ترتجى في نهاية المطاف من التفجع على ما أحاق بالعروبة من تدهور مكانتها كمثال ورابط فعلي، فالأجدى من ذلك هو تعظيم الممكن والإقرار بالمشتركات، والإفادة من تجارب الدول المتقدمة في التوحد من الصين إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع الاعتراف بأن الطوعية والقناعات والمصالح الحقيقية المتبادلة والمشتركة هي ما يمكن أن يجمع الناس والكيانات، لا الإرادات الفوقية أو المطامح الخاصة بهذا الطرف أو ذاك والتي يتم إلباسها لبوساً عروبياً . وتجربة الراحل عبدالناصر في التوسع الوحدوي وعلى ما اشتملت عليه من فضائل خير هادٍ .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"