هل تفتح ملفات "الدولة الوظيفية" بمصر؟

05:28 صباحا
قراءة 4 دقائق

ما إن ذكرت الصحف المصرية أن بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي طالبوا إدارة أوباما بوقف المعونة العسكرية لمصر، حتى بادر الداعية السلفي محمد حسان إلى الدعوة لجمع تبرعات تغني مصر عن تلك المعونة . وهي الدعوة التي باركها وأيدها شيخ الأزهر ولقيت استجابة شعبية واسعة . فيما تواصل جدل النخب السياسية بين القائلين بأنَّ القَدْر الأعظم من المعونة الأمريكية يستعيده البنتاغون بوسائل شتى، والقليل المتبقي لا يقاس بما يرتّبه من التزامات على صنّاع القرار المصري تنتقص من استقلالية قرارهم . فضلاً عن تأثيرها شديد السلبية في دور مصر الإقليمي، وبين المدّعين بأن مصر لا تملك ترف الاستغناء عن الدعم الخارجي، لأن نظامها الحاكم يواجه تحدي إيجاد فرص عمل وتحقيق التنمية في اقتصاد فقير الموارد ومنخفض الإنتاجية .

والسؤال: هل تعاني مصر خللاً بنيوياً يتمثل بقصور مواردها عن تلبية تعاظم احتياجات مجتمع عالي نسبة التوالد، متعاظم التطلعات الاستهلاكية؟ أو أن أزمتها الاقتصادية إنما تعود بالدرجة الأولى إلى تخلف وفساد النخب السياسية والاقتصادية التي تولت شؤونها، وانشغالها بتعظيم مكاسبها عن تطوير الإمكانات المادية المتاحة والقدرات البشرية المتوافرة، والعمل الجاد للتكامل العربي الذي مصر بحاجة ماسة إليه؟ أو أن القعود عن تطوير إمكانات مصر وقدراتها وتفعيل علاقاتها القومية إنما هو نتاج قرار استراتيجي اتخذ منتصف سبعينات القرن الماضي بتحويلها إلى دولة وظيفية دورها التاريخي مرتهن لإرادة القوى الأجنبية مانحة المعونات التي تدعم نظامها السياسي؟

الجدير بالتذكير أن مصر خاضت حرب الاستنزاف خلال سنوات 1967 -،1970 وفي الوقت ذاته واصلت تنفيذ برنامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية الطموح، معتمدة بالدرجة الأولى على مواردها الذاتية، ثم إنها خاضت حرب 1973 بإمكاناتها وبدعم عربي غير مشروط . وبالعودة إلى ما كان أواخر ستينات القرن الماضي، يتضح أن مصر كانت في مقدمة دول العالم الثالث في معدل النمو الاقتصادي، ومستوى الخدمات الاجتماعية، والدعم الذي تقدمه لحركات التحرر الآسيوية والإفريقية، والتعليم الجامعي المجاني لآلاف الطلبة العرب والأفارقة . فضلاً عن أنه كان باستطاعتها الحصول على قروض دولية من دون أدنى مساس بسيادتها الوطنية واستقلالية قرارها السياسي، أو التأثير في دورها القومي الفاعل . وكانت حينها متقدمة بكل المجالات على ماليزيا ومعظم النمور الآسيوية . وفي مستوى يقارب ما كانت قد بلغته كوريا الجنوبية بما تلقته من معونات واستثمارات أمريكية ويابانية .

والثابت أن جبهة سيناء كانت على الدوام مصدر الخطر الأول على الأمن الوطني المصري، بدليل أن جميع معارك مصر التاريخية وقعت على أرض فلسطين وما وراءها، بحيث استقر في الفكر الاستراتيجي المصري أن الغازي الذي يضع قدمه في الإسكندرونة، ينتهى إلى الإسكندرية . والثابت كذلك أنه كلما نمت قدرات مصر الذاتية، تعاظمت فعاليتها القومية، وسعت إلى التفاعل مع المشرق العربي خاصة، وبلاد الشام على الأخص، وكلما وهنت قواها الوطنية انكفأت داخل حدودها القطرية، فتشرذم المشرق العربي وشاعت فيه الصراعات اللامجدية، ثم ارتد الوهن على مصر . وفي تجربتي محمد علي وجمال عبدالناصر مثالان واضحا الدلالة .

وعليه، كان في مقدمة غايات القوى الاستعمارية من إقامة مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، أن يشكل قوة كابحة لفعالية مصر القومية، وهو الهدف الذي استحال تحقيقه في المرحلة الناصرية . وما كان للردة الساداتية أن تمرر اتفاقية كامب ديفيد لولا أنه كان قد مهد لذلك بتدمير قدرات مصر الإنتاجية، وذلك ما تكفلت به سياسة الانفتاح وبرامج الخصخصة وبيع القطاع العام بأبخس الأسعار للرأسمالية الطفيلية التي منحت الفرص الواسعة للإثراء غير المشروع . وبدلاً من التقدم على طريق مشاركة قوى الشعب العاملة في صناعة القرار، كما نص على ذلك الميثاق، وتأسس عليه بيان 30 مارس/ آذار ،1968 جرى تحوّل جذري في التوجه السياسي الاقتصادي بحيث غدت الرأسمالية الطفيلية صاحبة دور ولو محدوداً في صناعة القرار . وليس مستغرباً، والحال كذلك، استشراء الفساد في كل المرافق على نحو غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث .

ولا خلاف أن مصر تعيش ظروفاً اقتصادية واجتماعية حرجة للغاية، فضلاً عن الصراع الظاهر والمكتوم بين قواها السياسية، غير أن الواقع غيرُ ميؤوس منه، وآفاق المستقبل غير مسدودة . ولقد واجهت شعوب أخرى مثل ما تواجهه مصر راهناً . فقبل فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات وتوليه الحكم في تركيا، كان الاقتصاد التركي يعيش أزمة خانقة . وبالتوجه الجاد نحو تطوير الإنتاج ومكافحة الفساد تعافى الاقتصاد التركي، وبالتبعية تعاظم الطموح للعب دور إقليمي . وكذلك هو حال روسيا بعد أن تعرضت لنهب مشروعاتها الكبرى وبيعها بأبخس الأثمان لمافيا السوق، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالعمل الجاد والحسم في مواجهة الفساد الذي عرفت به إدارة بوتين ميدفيديف لم تتعاف روسيا فقط وإنما غدت قطباً منافساً للقطب الأمريكي .

ومع التقدير لمبادرة الداعية محمد حسان وتأييد شيخ الأزهر للمبادرة الكريمة، وما ترمز إليه من شعور عظيم بالكرامة الوطنية التي نادت بها ثورة 25 يناير/ كانون الثاني ،2011 ومع عظيم الشكر لكل متبرع ولو بجنيه واحد، إلا أن ما تحتاجه مصر يتطلب حلاً جذرياً لتدني الإنتاجية وشيوع الفساد والنهب، وهذا يستدعي مساهمة أصحاب الاختصاص بمصر للبحث في تفعيل إمكاناتها الإنتاجية وقدراتها البشرية، واسترداد أموالها المنتهبة والمودعة بالمصارف الأجنبية بأسماء أركان النظام السابق وشركائهم من رجال وسيدات الأعمال الذين امتلكوا المليارات والملايين، واستعادة ثروة مصر من الغاز المباع للكيان الصهيوني بأسعار أقل من التكلفة، والعمل على استغلال مكامن الغاز حيث وجدت في مصر، وتطوير التعليم ليواكب العصر، وإعمار سيناء واستثمارها في الزراعات الممكنة، إذ سبق للعدو الصهيوني أن استزرع بعض أرضها وأتت بنتائج طيبة، ووضع الضوابط على الاستهلاك الترفي ورفع الرسوم الجمركية والضرائب على السلع الكمالية .

والسؤال الأخير: هل يفتح كِرام مصر، وهم كثر، ملفات الدولة الوظيفية، لأنه بقدر ما تتحرر مصر من إسارها، تتقدّم على طريق تحرير إرادتها الوطنية من تبعات اتفاقية كامب ديفيد، وتستعيد دورها القومي المغيّب لأنه المنقذ لشعبها وأمتها العربية؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"