هل هناك تبعية فرنسية للولايات المتحدة؟

04:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

يعتبر كثير من المحللين بأن السياسة الخارجية الفرنسية تخضع لاعتبارات «الأخ الأكبر» الأمريكي أكثر من أي اعتبار آخر، وبأن أوروبا تخضع في نهاية المطاف للولايات المتحدة. وفي نظر هؤلاء فإن الجنرال ديجول نفسه وبالرغم من مواقفه التي اتخذت مسافة من السياسات الأمريكية، بقي محتاجاً للحماية الأمريكية من الاتحاد السوفييتي، كذلك كانت حالة الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران قبل وبعد انهيار جدار برلين.
لقد أسس الجنرال ديجول لسياسة «الخط الثالث» أو «الاستقلال» عن القطبين بعد الحرب العالمية. وخرج من المنظمة العسكرية لحلف الأطلسي في العام 1966 إثر خلافات مع الرئيس الأمريكي الجنرال إيزنهاور. لكنه مع ذلك بقي في الحلف وأيد واشنطن في كل الأزمات الكبرى خلال الحرب الباردة (الصواريخ الكوبية على سبيل المثال لا الحصر). كذلك فعل الرئيس ميتران الذي كان ديجولياً في سياسته الخارجية.
في الحقيقة لم تخرج فرنسا من الحرب العالمية الثانية قوة عظمى، كما كانت عليه، على الرغم من استحواذها على مقعد دائم في مجلس الأمن، بل أضحت «قوة متوسطة» بحسب تعبير الرئيس فاليري جيسكار ديستان. وقد شاركت في التحالفات التي قادتها واشنطن «لكي تحتفظ لنفسها بمقعد في الصف الأمامي من الأمم» بحسب تبرير ميتران لانضمامه إلى التحالف الأمريكي في حرب الخليج الثانية، والذي تسبب باستقالة وزير دفاعه وقتها جان-بيار شيفينمان الرافض لهذه المشاركة.
بعد نهاية الحرب الباردة اختلفت الأمور، إذ لم يعد هناك معسكران تحاول باريس الوقوف بينهما. اختفاء الاتحاد السوفييتي حرمها من هذا الهامش الظاهري ووضعها أمام المعادلة التي أطلقها جورج بوش الابن «من معنا أو مع الإرهاب». وهكذا انتقلت باريس إلى ما سماه محللون «الاستقلال المركب» أي البقاء إلى جانب القوة الأمريكية الأعظم من دون الابتعاد عن القوى العظمى المنافسة كروسيا والصين.
وهكذا، فإن فرنسا كغيرها من دول العالم أجمع لا تستطيع اتخاذ قراراتها الخارجية من دون اعتبار للنظام الدولي والقوى العظمى الأخرى المسيطرة عليه، وهي جزء لا يتجزأ منها.
وبما أن فرنسا والولايات المتحدة حلفاء، أقله من الناحية القانونية (حلف الأطلسي) وهما ديمقراطيتان غربيتان تتقاسمان القيم نفسها تقريباً، فليس من الغريب أن يكون لهما مقاربات وتحليلات متشابهة للشؤون السياسية. وهذا لا يعني بالضرورة أن الواحدة منهما تخضع بالضرورة للأخرى.
ثم أن الأمور تختلف باختلاف الظروف والأزمات والإدارات الفرنسية والأمريكية. شيراك كان على وئام مع كلينتون وفي عهده بدأت فرنسا عودتها إلى القيادة العسكرية المدمجة لحلف الأطلسي في مقابل وعود بتعيين ضباط فرنسيين في مراكز قيادية في الحلف. وفي عهد بوش وصل الاختلاف بين واشنطن وباريس، في بداية العام 2003، إلى حد تهديد هذه الأخيرة باستخدام حق النقض-الفيتو ضد مشروع قرار أمريكي في مجلس الأمن يتيح لواشنطن غزو العراق، والذي وقفت ضده باريس بحزم غير مسبوق. ومن جهته الرئيس ساركوزي رغم أنه كان أطلسي الهوى ومؤيداً لبوش الابن، إلا أن ذلك لم يمنعه من التقارب مع روسيا وبيعها سفن «ميسترال» الحربية، والتوسط بين بوتين وبوش في الأزمة الجورجية. ولم يتردد ساركوزي في التدخل العسكري المباشر في ليبيا بغطاء أمريكي وبقرار من مجلس الأمن الدولي (1973). من جهته الرئيس هولاند تدخل عسكرياً في مالي وفي ساحل العاج بموافقة أمريكية كون فرنسا لها تقليد قديم في التدخل العسكري فيما يسمى ب«المربع الفرنسي» في إفريقيا. كذلك كانت فرنسا حاضرة في كل التحالفات التي قادتها الولايات المتحدة ضد الإرهاب لاسيما بعد 11 سبتمبر 2001 وبمناسبة الظاهرة «الداعشية» المقيتة.
وفي جردة سريعة للأزمات الكبرى بعد الحرب الباردة، نلاحظ بأن فرنسا تمايزت بل اختلفت مع الولايات المتحدة في معظمها. في عهد الرئيس أوباما اتفقت باريس مع واشنطن حيال الأزمة الأوكرانية والملفين السوري والنووي الإيراني، لكنها تختلف اليوم مع إدارة ترامب في هذين الملفين، بالإضافة إلى الشأن البيئي واتفاقية «كوب 21» (باريس ديسمبر/ كانون الأول 2015) وأفغانستان، أما في المشكلة الفلسطينية فإن التمايز الفرنسي مع واشنطن قديم ومستمر، ومؤخراً أكد الرئيس ماكرون أنه لن يعترف بالقدس عاصمة ل «إسرائيل» كما فعل ترامب. لكنه في الوقت نفسه لم يعترف بالدولة الفلسطينية على الرغم من إلحاح الرئيس الفلسطيني عباس.
في المحصلة هناك مصالح وقيم فرنسية-أمريكية مشتركة تترجم إلى أفعال ومواقف مشتركة بين حليفين منذ سبعين عاماً، وهذا أقرب إلى التعاون منه إلى الخضوع. فقط ينبغي التخلي عن الفكرة القائلة بأن المعيار الوحيد لاستقلالية السياسة الخارجية الفرنسية هو ابتعادها عن واشنطن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"