الرواية الموريتانية بين التوثيق التاريخي والميثيولوجيا

ولدت قبل 30 عاماً على يد "قابلة شعرية"
04:28 صباحا
قراءة 8 دقائق

تعتبر الرواية الموريتانية جديدة نسبياً من حيث الزمن على الأقل، إذ بدأت متأخرة قياسا لنظيراتها في باقي البلدان العربية، وهي لم تبلغ الثلاثين من عمرها بعد. فالموريتانيون الذين بدأوا ملامسة الأدب العربي الحديث ابتداء من شوقي إلى شعراء القصيدة النثرية، كانوا واقعين تماما تحت تأثير فن الإيقاع الشعري، وهم منذ ستينيات وسبعينيات القرن الفائت بدأوا ملاحقة الحداثة الشعرية الوافدة من مشرق الوطني العربي عبر البعثات الدراسية ووسائل الاتصال المحدودة وقتها.

ولكن ما إن أطل عقد الثمانينات حتى كان الموريتانيون على موعد مع الرواية الأولى التي ربما كان لها التأثير الأفضل في اتجاه جيل من الكتاب إلى فن السرد.

ويبدو أنه من المقدر أن يولد كل شيء في موريتانيا على يد قابلة شعرية، فالشعراء هم الذين بدأوا الرواية الموريتانية قبل الكتاب ومتعاطي النثر.

صدرت أول رواية موريتانية هي الأسماء المتغيرة عام 1981 للشاعر أحمد ولد عبد القادر، وهو رائد الشعر الموريتاني الحديث، وربما كتب الرجل الأكثر شهرة في البلاد والمعروف بالشاعر، هذه الرواية تحت دوافع معينة منها حسه الأدبي ورغبته بتجريب جنس تعبيري آخر، ومنها، ربما، حيازته لقصب السبق في النثر بأن يكون رائدا للرواية الموريتانية بعد أن كان رائدا للقصيدة الحديثة، ومنها، وهذا مهم، سعيه لكتابة تاريخ البلاد في مرحلة معينة وبأسلوب أكثر تجذيرا من المباشرة التاريخية التقليدية.

بعد ذلك تلتها رواية القبر المجهول عام 1984 لولد عبد القادر أيضا، ثم رواية أحمد الوادي عام 1987 وهي للشيخ ماء العينين بن شبيه، وهكذا بدأت الرواية الموريتانية كتوثيق لمراحل سياسية، فقد كانت روايتا ولد عبد القادر القبر المجهول، والأسماء المتغيرة توثيقاً للحركة الوطنية (الكدحين) وهي الحركة المعارضة في الستينيات والسبعينات من القرن الفائت والتي خاضت صراعا مريرا مع نظام المختار ولد داداه، وكان ولد عبد القادر نفسه خامس خمسة رجال أسسوا قيادة هذه الحركة في جنوب البلاد في تلك الفترة، ووضعوا منهجها العملي والفكري.

ولذلك فولد عبد القادر نفسه يعتبر رواية القبر المجهول كتابة للتاريخ على حساب بعض فنيات الرواية، ومع ذلك تمكنت القبر المجهول، والأسماء المتغيرة وأحمد الوادي من زحزحة الصخر عن النبع ليسيل.

وحول ارتباط الرواية الموريتانية بالتاريخ يرى الناقد الموريتاني الدكتور محمد السحن ولد محمد المصطفى أن الرواية الموريتانية كانت شديدة الارتباط بالواقع، فرصدت تحولاته، وهزاته، ولم تجعل همها التأريخ للأحداث والأشخاص بل جعلت الوقائع التاريخية خلفيات تنفذ منها إلى واقع فني يصدق على المجموع ولكنه لا يخص أحدا بعينه وهنا اكتسبت قيمتها الأدبية.

ومن المهم أن نشير إلى أن حضور الزمن في الروايات الثلاث قوي، وهو زمن متحكم في مصائر العباد يديرهم كما يشاء. حيث نجد أن الزمن في الأسماء المتغيرة والقبر المجهول أداة الحياة والنماء والموت، فهو موسم المطر والخير، وهو فصل الجفاف والعطش والرياح الحمراء وهو في القبر المجهول يكتسي دلالة مركبة ففصل المطر يتزامن مع استئناف الحروب والصراعات القبلية، بينما يهدأ الناس في فصل الصيف وذلك مظهر من مظاهر تراجيدية الحياة البدوية التي تصورها الرواية.

وفي رواية العيون الشاخصة لولد عبد القادر والصادرة سنة ،2000 يقدم الروائي مرثية للطبيعة حيث يرصد نتائج تحولها إلى القحط الذي ينعكس على كل شيء في أبطال الرواية فينتقل بعضهم إلى العالم الآخر وينتقل المقاومون للظاهرة أو الفارين منها إلى عالم المدينة الجديد، وفي نفس السياق تقريبا تأتي رواية عودة الزراف للشيخ ولد أحمدو، والتي تعالج قضية الحراك المجتمعي في ظل النزوح من الريف إلى المدينة والعيش في الكبات أي أحياء الصفيح، مظهراً المعاناة من البطالة وصدمة المدنية.

في عام ،1996 كانت الرواية الموريتانية على موعد مع نقلة نوعية على مستوى جميع الأبعاد الفنية، فقد أصدر الروائي الموريتاني الكبير موسى ولد أبنو روايته مدينة الرياح التي شكلت علامة فارقة في الرواية الموريتانية والعربية، بل والعالمية فقد عدها البعض ضمن أفضل عشرين عملا أدبيا أنتجه الكتاب العرب في القرن العشرين.

والطريف أن الرواية صدرت قبل ذلك باللغة الفرنسية تحت مسمى البرزخ، ولم تثر الاهتمام، ولكن عند تعريبها، وليس ترجمتها، انتقل صداها سريعا لتأخذ مكانها في الأدب العربي الحديث.

فرواية مدينة الرياح، رواية شاملة من الناحية الفنية سواء من حيث تقنيات الفن الروائي التقليدي أو من حيث النوافذ العملاقة التي تفتحها أحداث هذه الرواية فلسفيا وروحانيا ومزيجها الجميل بين الخيال العلمي والحياة البدوية في أقسى تجليات صراع الإنسان مع العيش والطبيعة، وغير ذلك، وهو شيء غير مستبعد من فيلسوف كموسى ولد أبنو قرر أن يكتب الفلسفة بشكل مغاير وغير نمطي.

كما حافظ ولد أبنو في ثلاثيته الحج التي صدر جزؤها الأول عام 2005 على تألقه الروائي وعلى جمال لغته، فالحج هي أول رواية موريتانية تتناول ظاهرة فريضة الحج، وتسلط الضوء من زوايا فنية حادة على ظاهرة دينية وإنسانية عمرها آلاف السنين، على أن الرواية ككل روايات الكاتب ومنها الحب المستحيل، ترفض التخلي عن الخيال العلمي، وتم كتابة هذه الثلاثية من وحي أحداث الحادي عشر من سبتمبر كما كشف ولد أبنو لالخليج قبل أن تصدر الرواية.

ويرى الناقد الدكتور الشيخ ولد سيدي عبد الله أن رواية موسم الذاكرة، كانت أول رواية موريتانية تجرؤ على اختراق مشكلة تعدد الأعراق في موريتانيا، وتتحدث حول المسكوت عنه، وإن كان البعض ينظر إليها على أنها رواية تتناول صراع الحضارات والإرهاب.

أما رواية وادي النعام للكاتب الصحافي محمذن بابا ولد أشفغ الصادرة عام ،2007 فيرى محمد بابا ولد حامد أنها تصب في جنس من الأدب جديدٍ على الرواية العربية يُعنى بالخيال السياسي.

وفي عام 2008 صدرت رواية الشفق اللازوردي للكاتب محمد الأمين ولد أحظانا، وهي رواية متميزة فنيا وسرديا، كما صدرت روايات أخرى أقل مكانة أدبيا.

وفي محاولة لتصنيف الروايات الموريتانية نجد ثلاثة اتجاهات هي: الروايات التاريخية، وتتناول مراحل معينة من التاريخ السياسي والاجتماعي للبلد، ويمثلها أحمدو ولد عبد القادر، والروايات الفنية ويمثلها موسى ولد أبنو، وتتناول الخيال العلمي وقراءة المستقبل السياسي، وصراع الحضارات ومعالجات فلسفية وفكرية، والصنف الثالث هي الروايات التي تتناول الواقع المعاش ضمن دائرة الحركة الاجتماعية.

ويجمع هذه الروايات جميعا وعلى اختلاف أساليبها وأهدافها والقضايا التي تعالجها المكان البدوي (الوديان، القفار، الرمال، الجبال، مضارب الأحياء البدوية، القوافل، الترحال...)، كما يبدو الزمن عنصرا صادما في أغلب هذه الروايات، ويتجلى بشكل كبير تأثير المناخ في الحياة والصراع من أجل البقاء (القحط، الفقر، البطالة، النزوح إلى المدينة، العيش في الأحياء الشعبية.. ) كما يسود في الروايات الأكثر تميزا نوع من القلق المشترك من مستقبل البلد في ظل تحولات عرقية واجتماعية وسياسية، فيما يسميه الناقد ولد محمد المصطفى بمجتمع يبحث عن هويته الداخلية والخارجية.

وحول طبيعة الرواية الموريتانية تقول القاصة أم كلثوم بنت أحمد إن الرواية الموريتانية تتميز بكونها رواية الصحراء وإن هذه الرواية رغم حداثة سنها بدأت تلامس العالمية من خلال محليتها الفريدة، وتسليطها الضوء على مشاكل المجتمع الصحراوي وتحولاته.

أما الروائي موسى ولد أبنو فيقول تمتاز الرواية الموريتانية بقضيتين، الأولى هي ازدواجية الكتابة باللغة العربية والفرنسية، فنحن لدينا مبدعون يكتبون باللغتين، أما الناحية الثانية فهي أن الأدب الموريتاني أصبحت تنمو فيه مدرسة للخيال العلمي وهذا شيء جديد.

تمثل أحدث الروايات الصادرة في موريتانيا الشفق اللازوردي نموذجاً يحمل قاسما مشتركا من كل الروايات التي صدرت خلال العقود الثلاثة الماضية، فهي رواية من الصحراء . وتتضمن الرواية فصلين يحمل الأول عنوان بنات نعش، حيث شكل اختيار النجم المذكور بالإضافة لما ترمز له النجوم من أبعاد أسطورية وغيبية في الموروث الثقافي للصحراء، يعود إلى كون بنات نعش تعتبر في الميثولوجيا الشعبية البيضانية (ثقافة قبائل بني حسان) هي ذاتها ناقة صالح التي عقرها أشقى ثمود، فرفعت للسماء فهي تتراءى في الشمال الغربي، في نفس الفترة من السنة التي يقضيها الحي الذي تتحرك الرواية في أفقه بمنطقة (آوْ كَيْرَه) شرقي منطقة الركيز، جنوب موريتانيا.

أما الفصل الثاني فقد جاء هو الآخر باسم أحد النجوم سهيل إذ إن اختيار سهيل الذي يتراءى يمانيا له علاقة كذلك بالمسار الروتيني في رحلة الخريف والصيف، حيث يظهر دليلا لرحلة بشائر الصيف (تِفِسْكِى) متعامدا إلى الجنوب فوق منطقة آوكيره التي تحدها منطقة (لِخْشُومَه) من الجنوب، و(شَمَامَه) من الشرق و(آفْطُوطْ) الأوسط من الشمال والغرب، كما يرمز في حياة الراوي للحنين إلى الماضي السحيق، الماضي اليماني.

من جهة أخرى ينقسم زمن النص إلى زمنين الأول واقعي: وهو المرصود في الرواية ما بين طلوع الْغَفْرَة التي تكون طالع أول الليل ليلة الثالث والعشرين من مارس، إلى طلوع الدبران في الثلاثين من أكتوبر، مجموع

أيام هذا الزمن هي 222 يوماً، أي سبعة شهور تزيد أياما اختيار المنازل دليلا على الزمن الفلكي التعاقبي نابع من طبيعة البيئة المنتجة للنص، التي تعتمد اعتمادا كليا على هذه المنازل في التوقيت للصلاة وأوقات العتمة (حلب الحيوانات) ومعرفة الفصول ومواسم السموم والأمطار والبرد، وأهم من كل ذلك الاهتداء ليلا إلى مكان الحي، وإلى المناهل.... كان هذا الزمن وعاء لرحلة استكشاف قام بها (طفل أسمر) تفتقت حواسه فجأة وبدأ يشعر ويحس، ويستنتج، ويكتشف محيطه الطبيعي والاجتماعي، والثقافي، ويرصد المعاني الدرامية التي يجسدها الموتُ، والمنغصات الأخرى كقساوة الطبيعة، والقوى المفارقة كالجن والشياطين الذين يتربصون بالإنسان البدوي، حيث يلوذون خلف الخيام، وينامون على الرماد، ومناتف الدباغة، وخلف الأحقاف، للبرهنة على أن للصحراء حياتها المتكاملة: كحياة واقعية تستجيب لمتطلبات البقاء والاصطفاء الطبيعي، تحتاط لكل شيء، وتكتفي بالدورة الاقتصادية الداخلية من الحبل، إلى الراحلة، ومن الحبة إلى الخيمة، في توزيع فريد من نوعه للوظائف، واستغلال رشيد ومحكم للموارد. وحياة تنهض على القوى المفارقة لتفتح نافذة على عالم من الأسطورة، عالم لا يمكن أن تنجبه إلا مخيلة خصبة، تتعامل مع محيط لا يؤمن جانبه، فيه بشائر من حياة، ويعزف في الوقت ذاته على وتر الفناء. حيث يوجد رافد ديني ثقافي يسيطر سيطرة كاملة على البنية الفكرية والسلوكية للمجموعة البشرية (العينة)، فالقيم السائدة هي قيم عربية إسلامية غير مشوبة بأي رافد آخر، قيم ما زالت تقاوم رغم مرور ستة عقود على وجود الاستعمار الغربي بما يحمله من قيم جديدة واكتشافات باهرة: (الطائرة، السيارة، الراديو..)، لكن هذه القيم أصبحت تترنح مع رحيل الاستعمار الذي لم يؤثر سلوكيا وحضاريا إلا بعد رحيله. وهناك الميثيولوجيا النابعة من طبيعة الصحراء المنفتحة على عوالم من العدم اللامتناهي، عوالم يصعب ملؤها إلا بقوة مفارقة عيونها مفتوحة على هذا الكائن الضئيل؛ الإنسان، تسعى سعيا إلى أن تهلكه إن خرج من الدائرة السلوكية، أو ركب رأسه فجازف بالمشي ليلا، أو على غير هدى، أو ترك حجابه وحصنه إن أرغمته الحاجة إلى هذه المجازفة.

أما الزمن الثاني في الرواية فهو زمن الحلم، وهو ذو طابع ميتافيزيقي فلسفي مشبع بالتنبؤ، يحيل على عوالم مختلفة بعضها موغل في البعد المستقبلي خمسين سنة (2022)، أو في زمن أوسط عشرة إلى عشرين عاماً منتصف سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت وهو زمن الحلم الغائم، حيث ما من ضوابط تحكمه، وهو محاولة لرصد لحظات يتكثف فيها الحكي لإضاءة فترة أقرب إلى الإسكتش من تاريخ الدولة الوطنية، أو كشف الستار عن تطور اجتماعي حدث في البلد مقارنة مع معطيات أشير إليها في النص الأم الذي هو مُرَهنٌ زمنيا في العام 1961. ووجه الغرابة في هذا الزمن أنه يرتبط من خلال الأشخاص النماذج بالنص الأصلي، أو من خلال الراوي الطفل إلا أنه منفصم عنه ولا يؤثر في مساره، وهو مغيب عن دائرة الوعي المعبر، لكي يظل النص منسجما مع تقنية الثنائية التي تتحكم في الإنسان، ويحاول النص تحليلها من خلال السرد.

أما اللغة في الرواية فتعتمد على لغة مبسطة تحاول أن تسرب البني الحسانية التي هي في أصلها بنى عربية تليدة: النثر الفني في القرن الرابع الهجري مع تعريب العشرات من أمثلة الحسانية وليدة بيئة الصحراء. واستطراد الحكي، ومادة السمر عند أهل البدو، وطرق تعليمهم، وتصورهم للكون، ومفهومهم للحياة من خلال هذا الحكي. أما السرد المظلل في النص الحلم فيعتمد أسلوباً معاصراً يتناسب مع البعد المدني لموضوع الحكي، والنفس الفلسفي الذي يحاول النص أن يبثه من خلال إشكالية الوجود والفناء؛ النقيضين المتلازمين كي تحفظ الحياة نكهتها، وتستعيد رونقها بشكل متجدد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"