الشعاب المرجانية متحف طبيعي مهدد بالاختفاء

ارتفاع درجة حرارة البحار وردم ا لشواطئ يتسببان في فنائها
13:57 مساء
قراءة 8 دقائق

ربما يصبح مستقبل هذه الشعاب المرجانية الغنية بالألوان وذات الجمال الأخاذ، في مهب الريح، فالاضطرابات المناخية التي تحدث في أيامنا هذه ستساهم الى حد بعيد في القضاء على هذه العجائب التي تتعايش فيها الكثير من الكائنات البحرية ليتحول قاع البحر بعدها الى ما يشبه الكابوس أو الكارثة الحقيقية. والأمر هنا لا يتعلق فقط بعدد من الكائنات، بل بالتوازن البيئي للأرض برمتها، إذ سيؤدي اختفاء الشعاب المرجانية الى اختفاء العديد من الكائنات التي تعتمد في معيشتها على هذه الشعاب فيما يسميه العلماء بالتكافل.

منذ عشرين سنة، ينقل لنا الباحث البيولوجي في علم البحار والمصور لورون باليستا صوراً مدهشة عن هذه الشعاب، كان آخرها رحلته الى كاليدونيا الجديدة التي كانت غنية ومملوءة بالاكتشافات المهمة للمجتمع العلمي لا سيما علماء البحار، وقد ساهمت الصور التي حملها معه من رحلته العلمية الجديدة والتي عرضت في الخامس من ابريل/نيسان الجاري في مدينة برست في إطار السنة الدولية للشعاب المرجانية في اطلاق بعض التحذيرات من أن يتحول هذا العالم الى عالم من الصمت المطبق والظلمات إذا ما اختفت الشعاب ومعها الكائنات البحرية التي تعيش في تكافل بيئي معها.

وينظر الباحثون الى تعليقات وشرح لورون باليستا على أنها دعوة للمحافظة على الجمال البيئي الطبيعي والتحذير من موت معلن لجزء من البيئة الحيوية خاصة ان هؤلاء يقولون إن 20% من الدرر البحرية تلاشت بالفعل، الأمر الذي دعا منظمة اليونسكو الى اطلاق صافرات الانذار قبل فوات الأوان.

ومن الدرر التي اكتشفها باليستا في كاليدونيا الجديدة خلال غطسة استغرقت 5 ساعات، نوع كبير من نجوم البحر الذي لم يجد له اسماً علمياً حتى الآن في كتبه العلمية، اللهم إلا صورة وحيدة لهذا النجم في كتاب الغواص النيوكاليدوني بيير لابوت والذي يشير الى أنه شاهد هذا النوع في العام 1980 لكن دون ان يسميه.

ويشير باليستا الى احدى المعجزات البحرية التي شاهدها تحت مياه جزر الأمانة في كاليدونيا الجديدة والمتمثلة في كائن من المجوفات السيون اطلق عليه اسم نخلة اللج أو الاعماق نظراً لشكله المشابه للنخلة. يذكر ان المجوفات هي كائنات مرجانية رخوة خالية من الهيكل البنيوي، لكنها تتميز بقدرة كبيرة على امتصاص الماء.

وكان باليستا قد عثر على هذه النخلة كما سماها، على عمق 110 امتار، راسخة فوق صخور مرجانية كلسية.

ويقول هذا الباحث ان الحياة عند هذه الأعماق تبدو ثمينة بقدر ما هي نادرة، ولذا فانهيار الشعاب فيها سيؤدي لا محالة الى تمديد انواع رائعة مثل المجوفات.

وكان باليستا قد امضى 18 شهراً في جزر البولينسيا الفرنسية الواقعة في جنوب المحيط الهادي لدراسة عملية الانسلاخ لدى سمك الملاك سمك ذو رأس ضخم حيث وجد أن بيضاته الملفحة تسحب الى عرض البحر ثم تعود اليرقات التي لا يزيد طولها على السنتيمتر الواحد الى الشعاب لتكتشفها وبعد شهر بالتمام والكمال تبدأ عملية التحول في الوانها حيث تكون في وسط أكثر ثراء بالمواد العضوية وهو ما يساعدها على اكتساب هذه الألوان، كما يزيد طولها ليصل الى 5 سنتيمترات وعندما تصل الى مرحلة البلوغ يكون طولها قد بلغ العشرين سنتيمترا ويصبح ثوبها المزركش اكثر جمالاً وشباباً ويدل على ذلك كثرة الخطوط فوق جسدها، وحين تصل السمكة الملاك الى مرحلة الرشد يصبح طولها 50 سنتيمتراً ويتخذ ثوبها الواناً بديعة تكسبها اسمها الشهير بالملاك.

ويرى الباحث باليستا أن هذه الكائنات الصغيرة هي التي تخفي وراءها الاكتشافات الكبرى من وجهة النظر العلمية ولذا فإن فكرة ان هذه الثروات البيولوجية التي بقيت مجهولة حتى وقت قريب، يمكن ان تختفي في يوم ما، هي فكرة لا تحتمل ولا يمكن تقبلها.

ويشير باليستا الى أن النوتر البحار وهو حيوان له 90 مجساً يتمكن من النزول الى مستوى 500 متر تحت سطح البحر نهاراً والصعود ليلاً الى عمق 10 امتار من السطح دون ان يشعر بأي اختلاف في الضغط، ونظراً لكثرة مجساته فإنه نادراً ما يفتحها إلا إذا فوجئ بخطر ما، ويبقى متقوقعاً داخل قوقعته، لكن يبدو ان باليستا كان مصراً على تصوير هذا الحيوان الاعجوبة وهو ملتصق بعدسة كاميرته البحرية فائقة التقنية على عمق 110 امتار، وبالفعل كان له ما تمنى اذ لم يكد باليستا يقرب من الكاميرا حتى اقترب منها متأثراً بلا شك بصورته المنعكسة في العدسة، وهنا بقي باليستا متسمراً في مكانه كي يلتقط هذه اللحظة الفريدة التي يمكن الا تتكرر إلا نادراً.

الجدير بالذكر أن حيوان النوتر البحار هو الجد الأولي للاخطبوط، لكنه لم يتطور منذ 80 مليون سنة، واستطاع خلال هذه الفترة ان يتغلب على العديد من الكوارث البيئية، لكن لسوء الحظ، يتعرض هذا الكائن في هذه الآونة الى خطر حقيقي جراء ارتفاع درجة حموضة المحيطات الناتجة بدورها عن ارتفاع في درجة حرارة الطقس، الأمر الذي يهدد قوقعته الخارجية ويهدد كذلك توقف انتشار وتطور الشعاب المرجانية التي تعتبر مأوى مهماً لهذه الكائنات.

ويقول اخصائي علم البيولوجيا واحد أكبر المتخصصين في الشعاب المرجانية حول العالم البروفيسور برنارد سالفات، إن الشعاب المرجانية هي حيوانات تتكون من مستعمرات عدة من شقائق النعمان البحرية، وكل نوع من هذه المستعمرات يبني جزءاً من الهيكل، ما يعني في النهاية ان تجمع هذه البنية الكلسية هو الذي يكون الرصيف المرجاني أو الشعاب.

ويضيف سالفات أنه كي تتم هذه العملية، يقوم المرجان بالاحتفاظ داخل انسجته بملايين النباتات البحرية الميكروسكوبية المعروفة باسم زوزانتيل والتي يتعايش معها عيشة التكافل.

وتتعايش شقائق النعمان البحرية والزوزانتيل سوياً وتنمو على طريق تبادل الاكسجين وغاز ثاني اكسيد الكربون حيث تنتج الزوزانتيل الاكسجين لتغذي الحيوان الذي يقوم بدوره بطرح الغاز الكربوني الضروري لعملية التمثيل الضوئي لدى النبات.

ويسهم هذا التبادل في تشكيل وتكلس الصخور المرجانية، كما تسهم النباتات البحرية عن طريق صبغاتها في منح الشعاب الوانها الجميلة المعروفة. ويوجد حوالي 800 نوع من الشعاب المرجانية الموزعة على 600 الف كيلومتر مربع في منطقة الكاريبي والمنطقة الهندوباسيفيكية، كما ان 99% من هذه الأنواع تتكاثر عن طريق التلقيح الخارجي حيث تحرر المتعضيات الذكرية والانثوية منتجاتها التلقيحية في المحيط وبهذا تنتقل مليارات من اليرقانات بواسطة التيارات البحرية وتقطع مئات عدة من الكيلومترات قبل وصولها الى رصيف مرجاني مجاور يمكنها ان تستقر فيه.

ولدى استقرارها في رصيف ميت في غالب الأحيان تبدأ اليرقانات بالنمو الى أن تكون هيكلاً كلسياً يتزايد حجمه جراء وصول يرقانات جديدة مع مرور الزمن، وفي العادة يكون التزايد في الحجم بشكل عمودي الى أن يتشكل لدينا في النهاية حاجز مرجاني كالذي نشاهده في البحار. ومن المعروف ان كل متر مربع من الرصيف المرجاني ينتج حوالي 10 كيلومترات من الكلس في السنة.

ويشير الباحث برنارد سلفات الى ان الكائنات البحرية نباتات وحيوانات تكثر بغزارة حول الشعاب المرجانية حيث يعيش 100 الف نوع من هذه الكائنات في الشعاب نفسها. ويضيف سلفات أن ثمة 900 الف نوع من هذه الكائنات لم تزل في طور الاكتشاف، ولذا فإن النظام البيئي للشعاب المرجانية هو واحد من أكبر الأنظمة البيئية المنتجة في العالم، خاصة أنه يعتبر بمثابة المأوى الأفضل لهذه الكائنات الى درجة ان الكثير من الباحثين ينظرون اليه على أنه مشابه لمراكز الأمومة والطفولة عند الانسان، وتأتي الى هذا المأوى عشرات الآلاف من الاسماك كي تفقس بيضها. ولكي تقف الشعاب على اقدامها وتنمو بشكل طبيعي، لا بد من توافر بعض الشروط فشعاب المياه الدافئة يجب ان تنمو في حرارة تتراوح بين 23 25 درجة مئوية، أما اذا زادت درجة الحرارة عن 29 درجة مئوية فتلك الكارثة التي تؤدي بها الى الانهيار، وأما عن العمق المثالي للمياه فيتراوح بين صفر و50 متراً، إضافة الى أنه يتوجب ان تكون المياه صافية جداً لأن الزوزانتيل تحتاج الى كمية كبيرة من الضوء كي تتم عملية البناء الضوئي.

وتعتبر البحريات المكان المفضل لنمو الشعاب وعندما تتغير ظروف نموها فإنها تتعرض الى ضغوطات طبيعية ولا تلبث ان تصبح بيضاء، ومعنى ذلك أنه يصبح هناك انقطاع بين النباتات البحرية والحيوان نفسه، ونتيجة لذلك، تفقد الشعاب من الوانها، وإذا لم تتواجد كميات أخرى من الزوزانتيل كي تتدخل بسرعة لانقاذ الموقف فإن الشعاب تموت، ولذا فإن تضاعف مسألة الشعاب هو الذي يؤرق الباحثين ويشغل بالهم، اذ أن حوالي 10% من الشعاب معرضة لخطر الاختفاء على المدى القصير و40% منها مهدد بالاختفاء على المدى البعيد، في حين ان البقية المتبقية تعيش حتى الآن في أمان.

ويعود السبب الرئيسي لكل ذلك التلف الى الترسبات الناتجة عن عمليات استصلاح الأراضي والردم والحفر التي تجري بشكل متكرر للسواحل، حيث يولد ذلك سحابة من التربة الأمر الذي يؤدي الى ابطاء عملية التمثيل الضوئي واختناق الشعاب المرجانية وتلفها.

يضاف الى ذلك زيادة الكثافة السكانية وعمليات الصيد المفرطة والادارة السيئة للمواقع حيث إن الفضلات وعمليات التدمير غير المحسوبة للشعاب تلقي بثقلها على بقاء النظام البيئي للشعاب برمته.

ويرى الباحث برنارد سلفات أن ارتفاع مستوى البحار ليس له تأثير حقيقي في الشعاب، لكن في المقابل نلاحظ ان ارتفاع درجة الحرارة يؤدي الى تزايد ظاهرة ابيضاض الشعاب، ويضيف سلفات ان الباحثين يلاحظون تزايد هذا الأمر بشكل مفرط منذ 30 سنة خاصة أن ارتفاع نسبة ثاني اكسيد الكربون في المحيطات يؤدي الى تناقص معدل الأسى الهيدروجيني للماء بمعنى ان مياه المحيطات تصبح اكثر حمضية.

وتسهم هذه الحمضية في انقاص تركيز ايونات الكربونات التي تعتبر عناصر ضرورية لتكوين الهيكل الكلسي للشعاب المرجانية، وفي السنوات الأخيرة لوحظ ان معدل تكلس الشعاب تناقص بنسبة 20% الأمر الذي يضع مستعمرات الشعاب في خطر حقيقي.

ويشير بعض الباحثين الى ان ارتفاع درجة الحرارة بمعدل درجتين سيؤدي الى زيادة نسبة الحموضة وبالتالي فإن الشعاب المرجانية مرشحة للاختفاء بين عامي 2080 2100 بشكل كامل.

ويعتقد الباحثون ان نتائج هذا الأمر لا يمكن قياسها خاصة اذا علمنا ان نصف مليار انسان يعيشون بطريقة أو بأخرى على المصادر الغذائية للشعاب المرجانية، اضافة الى أن هذه الشعاب تسهم الى حد كبير في حماية السواحل عن طريق الحد من عمليات التعرية والمحافظة على مناطق صالحة للملاحة البحرية، علاوة على ذلك، يتم استخراج العديد من العقاقير الطبية من الوسط الذي تعيش فيه الشعاب المرجانية كذلك يجب ألا ننسى أن للعامل السياحي دوراً مهماً في اجتذاب الكثير من السياح الى المناطق التي تكثر فيها هذه الشعاب البحر الأحمر مثلا.

أما عن طرق حماية هذه الشعاب، فتتمثل أولاً في اتخاذ قرارات سياسية حكيمة من قبل الدول لحماية هذه الثروة المهمة من خلال تمويل المشروعات التي تسهم في تغيير نمط العادات اليومية في طرح الفضلات واستصلاح الأراضي لا سيما للدول النامية علماً بأن 101 من أصل 204 دول، تعتبر مواجهة لسواحل غنية بالشعاب المرجانية، وهي بحد ذاتها دول نامية ويصعب عليها بمفردها تحمل مسؤولية المشاكل البيئية الناجمة عن اختفاء الشعاب، إذا لم تمد اليها يد العون وعمليات التوعية.

ويتحدث بعض الباحثين عن حل يوتوبي، يتمثل في تطور طريقة عيش الشعاب من خلال طفرات وراثية فجائية تجعلها تتكيف مع التغيرات المناخية لا سيما الارتفاع في درجات الحرارة.

وفيما يتعلق بهؤلاء الذين يذهبون الى استزراع الشعاب المرجانية بطريقة اصطناعية، فهم يبالغون في الخيال والتمادي في الاحلام، لأنه اذا اختفت الشعاب بسبب الانسان، فلن يتمكن أي انسان مهما أوتي من العلم، من ايجاد شعاب تشبه ولو بقليل الشعاب الطبيعية التي نراها الآن.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"