الصرع من منظور حديث

03:55 صباحا
قراءة 9 دقائق

دفعت نتائج الاستبيان الذي شمل عددا من المرضى، خبير العلوم العصبية (دونالد ويفر) إلى تغيير مساره المهني . فقبل خمس سنوات وجه ويفر السؤال التالي إلى المرضى الذين يراجعونه في عيادته بجامعة كوين في مدينة أونتاريو الكندية: ما هو عقار الصرع الذي تحلمون بالحصول عليه؟

قول ويفر كنت أتوقع أن يفضل غالبية هؤلاء المرضى عقارا يتسم بقلة الآثار الجانبية ويؤخذ لمرة واحدة في اليوم، إلا أن ثلاثة أرباع المرضى قالوا إنهم يحلمون بعقار قادر على منع الإصابة بالصرع في المقام الأول، وهو ما لم يتحقق حتى الآن، خاصة أن العقاقير المتوافرة حالياً هي مضادات للتشنج تعمل على كبح النوبات التي تمثل أبرز أعراض المرض، لكنها ليست دائمة الفعالية وغالبا ما تكون لها تأثيرات جانبية مزعجة .

ويرى الباحث ويفر، أن هذا الأمر دفعه إلى مغادرة العيادة والتوجه نحو المختبر في محاولة لتطوير العقار السحري المنشود .

ويقول ويفر: لطالما اعتقد الناس أن الصرع مرض وراثي يولد مع الإنسان، لكن الحقيقة أن نحو نصف المرضى يصابون به بالاكتساب بعد تعرضهم لنوع من التلف في الدماغ . ورغم أن السبب الرئيس للمرض مجهول في بعض الأحيان، إلا أن التعرض لضربة في الرأس أو لعدوى دماغية أو سكتة أو ورم أو حمى في سن الطفولة قد تؤدي كلها إلى الإصابة بتشنجات عند البعض بينما لا يتأثر بها البعض الآخر أبدا .

ويبدو أن الباحثين عقدوا العزم على المضيّ في مهمة صعبة، نظراً لأن الغموض يحيط بما يحدث عند المرء خلال تطور الصرع . ففي بعض الحالات، تتطور العملية التي تسمى تشكل الصرع بسرعة كبيرة، حيث لا تستغرق أكثر من بضعة أسابيع . وفي حالات أخرى، لا تحدث النوبة الأولى إلا بعد مرور أكثر من عقد على حدوث الخلل .

ويقول الخبراء إن لديهم بضعة أدلة حول بعض التغيرات التي تحدث على المستويين الخلوي والكيميائي الحيوي، ولكن لم يتضح حتى الآن أي من تلك التغيرات تمثل الأسباب وأي منها تمثل التأثيرات، الأمر الذي أدى إلى بروز خلاف كبير بين النظريات القائمة في هذا المجال .

وبعد مراحل متطورة من البحث، توصل ويفر وباحثون آخرون، إلى طريقة يتم فيها اختبار بعض العوامل المحتملة للإصابة بالصرع عند الحيوانات، وقد لا نكون بعيدين كثيرا عن تحقيق حلم خبراء الأمراض العصبية المتمثل في تطوير العقار السحري القادر على إنقاذ العديد من الأشخاص وتخليصهم من المرض الذي يستمر طيلة الحياة .

ماهية الصرع

تعمل الخلايا الدماغية العصبية (العصبونات) دون توقف، حيث تنتقل النبضات الكهربائية عبر الغصينات العصبية التي تسمى المحاور، استجابة للرسائل القادمة من العصبونات المجاورة . وتتواصل هذه الخلايا مع بعضها عن طريق وصلات تسمى نقاط التشابك العصبي وذلك عبر إطلاق إشارات كيميائية تسمى النواقل العصبية . وهناك إشارات مثيرة بمعنى أنها تولد نبضة كهربائية في العصبون المجاور، في حين أن هناك إشارات أخرى '' كابحة'' أي أنها تكبح جيشان العصبون . ومعظم العصبونات تتصل بمئات من الخلايا، كما أن معظم الدارات المثيرة تكون مصحوبة بدارات كابحة من أجل إبقاء عملية الجيشان تحت السيطرة .

نوبة الصرع

تحدث نوبة الصرع عندما يحدث خلل في التوازن بين الإشارات المثيرة والإشارات الكابحة . أما حالة الجنون المؤقت التي تصيب النشاط الكهربائي، فقد تقتصر على منطقة صغيرة بعينها أو ربما تنتشر لتطال الدماغ بأكمله . وفي معظم الحالات تنتهي النوبة من تلقاء نفسها ولكن إن لم يحدث ذلك ولم تتم معالجة المريض، فربما يفقد هذا الأخير حياته، وهي حالة تعرف باسم غَمرة الصرع .

ويمكن لأي شخص، أن يتعرض لنوبة صرع في ظروف معينة . فنقص النوم والإفراط في تناول بعض أنواع العقاقير والكحول،، يمكن أن يؤدي إلى انخفاض مستوى الكبح أو الجيشان العصبي في الدماغ الأمر الذي يتيح المجال لحدوث النوبة . وقد تبين أن عتبة النوبة (المستوى التي تبدأ عنده النوبة بالظهور) عند 3% من الغربيين الذين أصيبوا بنوبة في مرحلة ما من حياتهم، قد انخفضت . وهنا يطرح الباحثون سؤالا مهما هو : ما الذي يحدث خلال الساعات أو الأسابيع أو الأشهر التي تعقب الإصابة التي يتعرض لها الدماغ نتيجة انخفاض عتبة النوبة؟

في هذا الصدد، تركزت الأبحاث والدراسات على نقطتين أساسيتين: الأولى تمثلت بالتغيرات البنيوية التي تحدث في الدماغ، في حين تعلقت الثانية بالتبدلات التي تطرأ على الخصائص الكيميائية . وعلى الرغم من أن الدراسات تجرى على الحيوانات، فإن المصدر الرئيس للحصول على معلومات عن المرض يعتمد على أنسجة مأخوذة من أدمغة أشخاص يعانون من صرع حاد، مع العلم أن هذه العملية الجراحية تكون محفوفة بالمخاطر، إلا أنها تستحق المغامرة بالنسبة لبعض المرضى .

ويركز معظم الباحثين على منطقة الفص الصدغي للدماغ، حيث تنشأ نوبات الصرع فيه . وتبدو منطقة قرن آمون التي تقع في وسط الفص الصدغي، من أكثر المناطق عرضة للأضرار، ففي قرن آمون منطقة تسمى التلفيف المسنن حيث أن الدور الذي تعلبه الخلايا الموجودة في هذه المنطقة يثير جدلاً كبيراً على صعيد مرض الصرع ومراحل تكونه . ويحاول أنصار النظريتين الأساسيتين المتنافستين في هذا الشأن، إثبات صحة مزاعمهم منذ أوائل التسعينات .

وثمة عصبونات في التلفيف المسنن تعرف باسم الخلايا الحبيبية، تعمل على استقبال المعلومات القادمة من خارج قرن آمون . ولهذه الخلايا محاور طويلة تعرف باسم الألياف الطحلبية وهي تلعب دورا ما في قرن آمون . والخلايا الحبيبية تعمل تحت تحكم العصبونات الكابحة الموجودة ضمن قرن آمون والتي تعرف باسم الخلايا الشبيهة بالسلة (الخلايا السلّية الهاجعة) .

ويشير الباحث بوب سلوفيتر من جامعة أريزونا إلى أن الخلايا التي تقوم عادة بتنشيط العصبونات الكابحة هي من ضمن الخلايا الأكثر عرضة للإصابة . ووفقا لنظرية الخلايا السلّية الهاجعة، فإن غياب الكبح يقود إلى فرط نشاط الخلايا الحبيبية .

وبرزت هذه النظرية المنافسة بناءً على النتائج والملاحظات التي تقول إن معدل نمو الألياف الطحلبية، وتفرع المحاور عند البشر الذين يعانون من الصرع، يكون أعلى من المعتاد . وعليه، فإن هؤلاء الاشخاص يطورون عددا إضافيا من نقاط التشابك العصبي مع خلايا حبيبية أخرى، مما يقود إلى تشكيل حلقة تغذية ارتكاسية إيجابية يمكن أن تؤدي إلى خروج نشاط تلك الخلايا عن السيطرة . ويقول إيد دوديك، خبير العلوم العصبية في جامعة ولاية كولورادو الأمريكية يمكن أن يحدث نشاط كبير عن طريق عدد من نقاط تشابك عصبي فقط .

لكن سلوفيتر يعتقد أن الألياف الطحلبية غير العادية تقوم عمليا بإثارة الخلايا السلّية الهاجعة في محاولة لإعادة تنشيط الدارة الكابحة . ويضيف: نعتقد أن تبرعم الألياف الطحلبية يمثل آلية وقائية . وهناك خبراء يتخذون موقفا وسطيا بين الفريقين المتنافسين ويعتقدون أن هناك شيئا من الحقيقية في كلتا النظريتين .

ترجيح كفة الميزان

أجرى الباحثون معظم الدراسات المتعلقة بهاتين النظريتين، على أنسجة مأخوذة من قرن آمون . ويشير سولفيتر إلى أن الدماغ مملوء بالخلايا السلية الكابحة التي يمكن تهجع، مما يؤدي إلى فرط في النشاط في مناطق أخرى من الدماغ . وعلى مدى السنوات العشر الماضية، تمكن الخبراء من رصد عملية تبرعم المحاور العصبية الشبيهة بعملية نموّ الألياف الطحلبية في القشرة المخية، الأمر الذي يمكن أن يقود، حسب اعتقادهم، إلى أنواع أخرى من الصرع .

وهناك لاعب محتمل آخر في هذه المسألة يتمثل في عملية تخلق النسيج العصبي، أي ولادة العصبونات الجديدة . فالخلايا الحبيبية في التلفيف المسنن هي من الأنواع القليلة من العصبونات التي تستمر بالانقسام خلال فترة البلوغ، وقد تبين من خلال البحث على الجرذان أن النوبات تعزز الانقسام الخلوي في التلفيف المسنن . وبناء على ذلك، يقول دان لوينشتاين من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس ربما تتوه بعض العصبونات الجديدة التي قد تصل إلى مناطق غير اعتيادية فترجّح كفة مستوى الجيشان العصبي على كفة الهجوع .

الجيشان العصبي السام

هذا بالنسبة للتغيرات الهيكلية، ولكن ماذا عن التغيرات البيولوجية الكيميائية؟ في هذا الصدد، يعلم الخبراء منذ بعض الوقت أن الجيشان العصبي الكثيف يؤدي إلى تحرير كميات ضارة من مادة تسمى جلوتاميت الناقل العصبي الذي بدوره يتسبب في موت الخلايا . وهذه العملية تجعل المنطقة المتضررة في الدماغ أكثر عرضة للإصابة بالنوبات، رغم ان السبب لم يتضح بعد . ومهما كانت الآلية التي تقف وراء ذلك، فإن ظاهرة تحرير الجلوتاميت بسبب فرط الجيشان العصبي قد تكون السبب الرئيس وراء تكرار حدوث النوبات عند بعض المرضى بوتيرة أكبر مقارنة بغيرهم، وهي ظاهرة تعرف باسم الجيشان العصبي السام .

وتتمثل إحدى طرق دراسة دور الجيشان العصبي السام في الصرع، في تعريض الجرذان أو حيوانات أخرى، لصدمة كهربائية صغيرة أو جرعة من مادة كيميائية سامة على فترات منتظمة . ولوحظ في بداية التجربة بأنه لم تكن هناك أية تأثيرات ملحوظة، ولكن مع مرور الوقت تبين أن عتبة النوبة قد انخفضت . وبعد مضي أسبوعين تقريبا، وجد الخبراء أن العامل المحفز ذاته هو الذي أثار النوبات، وهو ما يعرف بظاهرة الاشتعال . ولوحظ أيضاً أن الحيوانات لم تشهد نوبات تلقائية، مما دفع بعض الباحثين إلى القول إن ما جرى لا يشكل نموذجا صالحا لعملية تكون الصرع البشري ولذلك اتجهوا إلى أساليب أخرى .

وعلى كل حال، قدمت الدراسات التي جرت على ظاهرة الاشتعال بعض الأدلة عما يمكن ان يحدث عند البشر . فعلى سبيل المثال، تبين للخبراء أن التغيرات الحيوية الكيميائية التي تحدث في أدمغة الفئران خلال ظاهرة الاشتعال تنسجم مع فرضية النشاط العصبي وانخفاض مستوى الكبح . فالناقل العصبي المحفز الرئيس هو الجلوتاميت، في حين ان الكابح الرئيس هو حامض أميني آخر يسمى G ABA . وأشارت بعض الدراسات إلى ان ظاهرة الاشتعال تنتج كمية كبيرة من مستقبلات الجلوتاميت، في حين أشارت أبحاث أخرى إلى انها تنتج عدداً قليلاً من مستقبلات حامض G ABA . ولاحظ الباحثون أيضاً انخفاضاً في مستويات أحد نواقل الأيونات في غشاء الخلية يسمى KCC2 الذي يعلب دورا أساسيا في نشاط الحامض G ABA .

وهناك وسيط محتمل آخر وهو أحد عوامل نمو النظام العصبي يسمى العامل العصبي المشتق من الدماغ (BDNF) المعروف بقدرته على زيادة كثافة غصينات محور الخلية العصبية . ووجد الخبراء أن الفئران التي تفتقر إلى نسخة واحدة من جينة BDNF ، هي أقل ميلا إلى إثارة عملية الاشتعال مقارنة بالفئران الطبيعية . وتبين في دراسات أخرى على الحيوانات، أن المواد الكيميائية التي تعطل عامل النمو BDNF تعمل على إبطاء ظاهرة الاشتعال .

الضغط النفسي الطويل الأمد

من ناحية أخرى من المعروف أن ما يسمى بخلايا الدبق العصبي تحافظ على مستوى الأيونات والنواقل العصبية، وعليه فإن الإضرار بهذا التوازن يمكن ان يقود إلى فرط نشاط الخلايا العصبية القريبة . وعلى كل حال، فإن هذه النظرية لا تزال في بداية مرحلة تبلورها .

ولايزال من غير الواضح أي من هذه التغيرات هي السبب المؤدي للصرع، كما لم تتضح أيضا كيفية ارتباط الأحداث على المستوى الكيميائي الحيوي مع تلك على المستوى الجزيئي . ويقول جيمس ماكنامارا خبير العلوم العصبية في جامعة ديوك بولاية كارولينا الشمالية، إن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف لضغط نفسي مؤقت أن يخلف آثارا طويلة الأمد في الدماغ؟ ولذا يرى ماكنامارا أن هناك سلسلة من الأحداث الدماغية التي تبدأ بالتعرض لإصابة دماغية فتقود إلى ظاهرة الجيشان العصبي السام، ومن ثم الموت الخلوي، الأمر الذي يؤدي إلى خلل في التوازن بين الإثارة والكبح لينتهي الأمر بتغيرات خلوية وتشريحية تسبب الصرع .

عقبة تطوير العقاقير

ويعتقد الباحثون أن تعقيد مراحل تكون الصرع يشكل عائقا أمام مطوري العقاقير . وتتساءل إلسا بتكانين من جامعة كيوبيو في فنلندا: ما هي العملية التي ينبغي استهدافها؟ هل الأمر يتعلق بالموت الخلوي أم بنمو المحور العصبي؟ ويقول ماكنمارا نعلم ان العامل BDNF يعلب دورا مهما ولكننا لا نعرف ما إذا كان ضروريا .

ولكن ايا كان الحال، فإن السوق المحتملة للعقاقير التي تكبح عملية تكون الصرع، تدفع الباحثين وشركات الأدوية إلى الدخول في مقامرة كبيرة مستخدمين الأدلة التي بحوزتهم حتى الآن .

والواضح أن عامل النمو BDNF يشكل انطلاقة مهمة، حيث يخطط فريق ماكنمارا إلى تحديد المواد الكيميائية القادرة على التدخل في مسار هذا العامل BDNF . كما أن هناك أسلوباً محتملاً آخر يتمثل في استخدام مضادات التشنج، على اعتبار أنها تعمل على خفض مستوى الجيشان العصبي أو رفع مستوى الكبح . وعلى كل حال، فإن التجارب الإكلينيكية التي تجريها نانسي تيمكين في جامعة واشنطن في سياتل على مضاد التشنج فينيفتوين وفالبروت لم تحقق أي نجاح حتى الآن . وتمكنت هذه المضادات من منع النوبات على المدى القصير، لكن لم يكن لتلك العقاقير تأثير طويل الأمد في منع تطور الصرع . ومع ذلك تصر تيمكين على ان مضادات التشنج ليست خارج اللعبة، وتخطط لإجراء اختبارات على مضاد آخر هو سولفيت المغنيزيوم . من جهته، يجري ويفر دراسات على فئة من المركبات المعروفة بقدرتها على تحفيز نشاط الحامض G ABA وكبح نشاط الجلوتاميت . ويقول: نعتقد أن G ABA والعصبونات المستجيبة للجلوتاميت تتأثر خلال مراحل تكوّن الصرع، ولذلك فإن الوسيلة العلاجية الشاملة هي التي تستهدف الاثنين معا .

وفي النهاية لا أحد يستطيع التكهن كم سيستغرق عمل ويفر وزملائه حتى يثمر، فآليات عملية تكون الصرع لا تزال غامضة، ولكن العلوم الأساسية بدأت بتبديد الغموض شيئا فشيئا .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"