الغيرة الزوجية . . متى يحبها الله ومتى يبغضها؟

"يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن . . ."
05:46 صباحا
قراءة 7 دقائق

تزدحم صفحات الحوادث في الصحف العربية بقصص جرائم يرتكبها أزواج وزوجات ضد بعضهم بعضاً تحت شعار الغيرة الزوجية . ويظل ملف الحوادث والجرائم التي ارتكبت في بلادنا العربية بسبب الشك والغيرة حافلاً بكل ما هو غريب وشاذ ويفرض على علماء الإسلام والنفس والاجتماع والتربية أن يكثفوا جهودهم للتوعية الدينية والاجتماعية والنفسية لحماية الأسرة العربية من المزيد من هذه الجرائم . الخليج طرحت قضية الغيرة الزوجية على عدد من علماء الإسلام في محاولة لتحديد الضوابط الشرعية لمشاعر الغيرة الطبيعية التي تتحول من الحب الجارف والحرص على الشرف والكرامة والسمعة الطيبة بين الناس إلى الرغبة الجامحة في الانتقام وإلحاق الأذى البدني بشريك أو شريكة الحياة .

في البداية يؤكد الداعية الإسلامي د .مبروك عطية الأستاذ بجامعة الأزهر أن غيرة الزوج على زوجته والزوجة على زوجها مشاعر إنسانية طبيعية لا ينبغي التقليل من شأنها أو التحقير من أمرها، فالرجل الذي لا يغار على زوجته هو إنسان متبلد المشاعر عديم الإحساس لا يحمل القدر الكافي من علامات الرجولة، فالغيرة بين الزوجين مطلوبة ومرغوبة شرعاً وعقلاً وعرفاً، وهي خلق إسلامي أصيل مادامت في حدودها وإطارها الشرعي .

تجنب الشبهات

ويضيف: واجب كل رجل مسلم أن يحافظ على شرفه وسمعة زوجته وأهل بيته ومن حقه أن يتخذ الاحتياطات اللازمة لذلك ومن واجب زوجته أن تطيعه في كل ما يطلبه لتحقيق هذا الهدف . وهناك آداب وأخلاقيات إسلامية مطلوب من الزوجة أن تلتزم بها وتحرص عليها داخل المنزل وخارجه وإذا ما التزمت بهذه الأخلاقيات والسلوكيات تجنبت كل الشبهات وحققت لزوجها ما يريده من حسن السمعة والاطمئنان إلى سلوك زوجته ونقاء شرفه فعلى الزوجة مثلا أن تتجنب الحديث مع رجل من غير محارمها في الطريق العام ولا تختلي برجل أجنبي عنها داخل المنزل أو في مكان العمل أو في سيارة أو حتى في مكان عام وهي مطالبة شرعا بعدم الخروج من بيت زوجها إلا بإذنه وبعدم إدخال أحد بيتها في غياب زوجها وعدم التحدث مع رجال لا علاقة لها بهم لا في الهاتف ولا عن طريق الشات الذي أفسد حياتنا، وهي مطالبة قبل كل ذلك أن تلتزم بالملابس الشرعية الساترة للعورة وعورة المرأة معروفة وهي جسدها كله ما عدا الوجه والكفين، ومطالبة بأن تكون مشاعرها لزوجها وليست لرجل آخر كانت تعرفه قبل الزواج أو تعرفت عليه قبل الزواج .

لو التزمت كل زوجة بذلك كما يقول د .مبروك جنبت نفسها القيل والقال وبعدت بنفسها عن الشبهات وحظيت بحب وتقدير واحترام زوجها، لكن للأسف معظم الجرائم التي تقع بين الزوجين بسبب غيرة الزوج على زوجته ترجع إلى سلوك الزوجات المستهترات بالقيم والأخلاقيات الإسلامية .

لكن د .مبروك عطية يؤكد أن هذا لا يعني عدم وجود رجال مرضى تسيطر عليهم الظنون والأوهام ويحتاجون إلى علاج نفسي أو دخول مصحات عقلية بسبب شكهم الزائد والغريب والشاذ وغير المبرر في سلوك زوجاتهم .

أخلاقيات الإسلام

د .أحمد عمر هاشم أستاذ السنة النبوية وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر يتفق مع د .مبروك عطية في أن الالتزام بأخلاقيات الإسلام كفيل بالقضاء على هذه المشكلة ويرفض مصادرة حق الزوج في الغيرة على زوجته ويقول: واجبنا أن نقدم النصائح والتوجيهات الإسلامية والاجتماعية والأخلاقية لكل امرأة تنساق وراء سلوكيات غريبة ومثيرة لمشاعر زوجها بأن تكف عن ذلك وتعرف حقوق زوجها عليها وتدرك أن من أبرز هذه الحقوق أن تحافظ على شرفه وشرفها وأن تتجنب كل ما يثير الشبهات حولها فنحن في مجتمعات تحكمها عادات وتقاليد مستمدة في معظمها من تعاليم ومبادئ ديننا، وكل زوجة مطالبة بالحرص على القيم والأخلاقيات الإسلامية حتى تصون شرفها وشرف أهلها وشرف زوجها .

ويضيف: الإسلام ألزم كل أفراد الأسرة بآداب وأخلاقيات يلتزمون بها في كل شؤونهم وأحوالهم وفي سائر مظاهر حياتهم . ومن أهم هذه الآداب والأخلاقيات التي ينبغي أن يلتزم بها كل أفراد الأسرة المحافظة على العرض والشرف وصيانة البيت الزوجي من أية فتنة وحمايته من القيل والقال . فالإسلام يحرص كل الحرص على صيانة الشرف والعرض وحماية سمعة المرأة من التعرض لأدنى ريبة أو لأقل شبهة ولذا كان من أهم آداب وأخلاقيات الإسلام أن تبرز الغيرة المعتدلة في البيت الإسلامي والتي اتفق علماء الإسلام على أنها في حدودها وضوابطها الشرعية خلق إسلامي ينبغي أن نغرسه في أبنائنا منذ الصغر وأن نطبقه في حياتنا كلها لأنه ضد السلبية واللامبالاة والبلادة، وكل هذه صفات لا تليق بإنسان مسلم، فالغيرة على الدين والعرض والشرف والكرامة تظل من الصفات الطيبة والأخلاق الحميدة التي يحث عليها الإسلام وكان يتحلى بها قدوتنا وأسوتنا الحسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه . وكان صحابته الكرام كما نقلت لنا الروايات الصحيحة يتحلون بهذه الصفات الطيبة، ومن الصحابة الذين اشتهروا بشدة الغيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت في الجنة قصرا فقلت لمن هذا القصر؟ فقيل: لعمر فذكرت غيرتك يا عمر، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله .

الغيرة في ريبة

ويقول الشيخ فرحات السعيد المنجي الداعية والفقيه الأزهري والرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر عن حدود وضوابط ومواصفات الغيرة الزوجية المحمودة: الغيرة المطلوبة والمرغوبة شرعاً بين الزوجين هي الغيرة المعتدلة التي يطلق عليها العلماء الغيرة في ريبة وتعني أن تكون هناك مؤشرات ودلائل وبراهين تفرض على الإنسان أن يغار على زوجته أو ابنته أو شقيقته أو جارته أو إحدى قريباته . ويضيف الشيخ المنجي: أما الغيرة في غير ريبة . التي لا يوجد ما يبررها، فهي التي يبغضها الله، لأنها تشوه صورة الآخرين بين الناس وتسيء إليهم دون مبرر، ولذلك يحذرنا رسول الله صلى الله عليم وسلم من هذه الغيرة فيقول في الحديث الصحيح: إن من الغيرة ما يحبه الله ومنها ما يبغضه الله . . أما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، والغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة والاختيال الذي يحبه الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدمة، والاختيال الذي يبغضه الله الاختيال في الباطل .

ويؤكد الشيخ المنجي أن الإسلام حريص كل الحرص على صيانة سمعة الآخرين وعدم رميهم بالاتهامات العشوائية أو إحاطتهم بالظنون والشكوك، ولذلك جاء التحذير من الغيرة في غير ريبة لأنها ضرب من الظنون والأوهام وإساءة الظن بالآخرين، والقرآن الكريم يحذر من هذا السلوك المريض فيقول سبحانه: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم .

من هنا يؤكد الشيخ المنجي أن الاعتدال في الغيرة على الأبناء وبين الأزواج والزوجات من الأمور التي حث عليها الشرع وحذر من المغالاة فيها، فالغيرة إذا تجاوزت الحدود والضوابط الشرعية أصبحت مدمرة للحياة الزوجية وقاتلة لأنفس بريئة كما نقرأ ونشاهد الآن حيث تنتشر صور الإجرام والعدوان بين الزوجين تحت شعارات الغيرة، والغيرة بريئة من ذلك والمتهم الرئيسي في هذه الجرائم هو الظنون والشكوك والأوهام والأمراض النفسية التي تسيطر على بعض الأزواج والزوجات .

جرائم الأوهام

د .سهير عبدالعزيز، أستاذة علم الاجتماع بجامعة الأزهر، تتفق مع الآراء السابقة في أن الغيرة المعتدلة بين الزوجين من الصفات الطيبة التي تحمي الأسرة وتضمن لها السمعة الطيبة في المحيط الذي تعيش فيه، لكنها ترى أن الجرائم الأسرية البشعة التي انتشرت في بلادنا العربية باسم الغيرة وتحت ستار الحرص على الشرف والكرامة ينبغي أن تواجه برفض وإدانة من علماء الإسلام لأنها تتستر خلف الدين وتحمل شعارات إسلامية، وتقول: لعلنا جميعا نتابع الجرائم التي ترتكب ضد المرأة في العديد من بلادنا العربية والإسلامية والتي تحمل عنوان جرائم الشرف فهذه الحوادث والجرائم البشعة لو دققنا في ملابساتها لوجدناها لا تستند إلى أدلة وبراهين ومعلومات صحيحة ولكنها تقوم على شكوك وأوهام وظنون وهذا ظلم لا تقبله شريعة عادلة مثل الشريعة الإسلامية التي جاءت بكل ما يحقق العدل والمساواة بين الرجل والمرأة .

لذلك تطالب د . سهير عبدالعزيز بتوقيع عقوبات رادعة لا تقل عن القصاص العادل ضد كل من تسول له نفسه العدوان على ابنته أو زوجته أو شقيقته أو أمه أو إحدى قريباته باسم الحرص على الشرف والكرامة.

نساء مريضات

د .سعاد صالح، أستاذة الشريعة الإسلامية والداعية المعروفة، تؤكد أن آفة الغيرة المرذولة ليست آفة الرجال وحدهم، فواقع الحال يؤكد أن هناك نساء مريضات يحتجن إلى علاج نفسي عاجل بسبب غيرتهن المفرطة على أزواجهن وتقول: من واقع خبراتي في التعامل مع شكاوى وظنون وأوهام النساء أؤكد أن معظم الشكاوى أو التساؤلات التي نتلقاها أنا وغيري من العلماء عن الغيرة الزوجية لا تستند لحقائق ولكنها تقوم على شكوك وظنون، فالشكوك والظنون لا تسيطر على الرجال وحدهم ولكنها تسيطر أكثر على النساء وتؤدي في النهاية إلى خراب البيوت . وأنا شخصيا تدخلت كثيرا لحل مشكلات زوجية كان سببها شكوك وظنون الزوجة في وجود علاقة لزوجها بامرأة أخرى .

ومن هنا تؤكد د .سعاد صالح أن الغيرة المعتدلة ليست مطلوبة من الزوج وحده ولكن مطالبة بها أيضا الزوجة لكي تحافظ على علاقتها بزوجها وتجنب الأسرة كثيرا من المشكلات الناتجة عن ذلك .

وهكذا اتفق علماء الإسلام والاجتماع على أن الغيرة الزوجية مطلوبة ومرغوبة شرعاً ولكن الغيرة المطلوبة هي الغيرة المعتدلة التي تستند إلى براهين وعلامات تدفع إليها وليس إلى ظنون وأوهام أو شكوك، واتفقوا على أن التزام الطرفين (الرجل والمرأة) بالسلوك والخلق الإسلامي القويم يوفر الاستقرار النفسي والعاطفي ويدعم مشاعر الثقة والاحترام المتبادل بين الزوجين . فهل نلتزم بذلك ونعمل على توفير الأمان والاستقرار الأسري ونقضي على الغيرة المدمرة التي شاعت في حياتنا الأسرية؟

سؤال موجه لكل زوج وزوجة تسيطر عليهما الأوهام والشكوك والظنون .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ybf2sdaa

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"