اهتم الإسلام كثيراً بكل عناصر العدالة، وشملت منظومته كل ما من شأنه أن يحقق العدل على أرض الواقع، حيث لا ينبغي أن ينصب الاهتمام على التشريعات والقوانين وترك من يطبقونها من دون إعداد وتأهيل، أو تركهم يطبقونها بأسلوب عشوائي خال من الانضباط والنظام.
من هنا كان اهتمام الشريعة الإسلامية بالقضاء وإعداد رجاله واختيارهم بعناية، وتأهيلهم لتطبيق عدل الله بين عباده.
فما مكانة القضاء في الإسلام؟ وما صفات وخصائص رجاله؟ وما الأدوات أو الإجراءات الضابطة لعملهم حتى لا يحيدوا عن الحق والعدل؟
والقضاء في منظور الشرع يعني: القول الملزم والحكم الفصل الذي يصدره القاضي في قضية من القضايا، أو في خصومة من الخصومات التي تحصل بين الناس، وهذا الحكم يصدر من القاضي على حسب ما تقضي الشرائع والقوانين المطبقة في الدولة.
وقد جاء في المعجم الوسيط: «القاضي من تعينه الدولة للنظر في الخصومات والدعاوي، وإصدار الأحكام التي يراها طبقا للقوانين».
ومكانة القضاء في الإسلام كما يقول د. أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بالأزهر واضحة وبارزة، فقد أنزل الإسلام القاضي منزلة عظيمة، لأنه أداة تحقيق الحق والعدل الإلهي بين الناس، وبالتالي فإن القضاء عظيم الأثر في تحقيق استقرار المجتمع، فالأمة التي ينتشر فيها الحق والعدل، ويشعر كل مواطن أو مقيم على أرضها بأنه يأخذ حقه، تعيش في أمان وسلام، ويؤدي كل إنسان يعيش على أرضها واجباته كاملة، ويشعر بالانتماء لترابها، ويعمل بكل جد ونشاط وإخلاص على رقيها وقوتها، ويتعاون مع الآخرين على حمايتها مع المعتدين الآثمين.
أمر إلهي حاسم
ويضيف: ولأن شريعة الإسلام تقوم على الحق والعدل وتأمر أتباعها بأن يقيموا حياتهم كلها على العدل في أقوالهم، «وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى».. وفي أحكامهم «إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، فكان لابد أن يولي الإسلام القضاء عناية كبيرة.
وتوجيهات القرآن وهو دستور حياة المسلمين هنا واضحة كما يقول د. كريمة فقد أطلق الحق سبحانه أمره الحاسم إلى كل من يحكم بين الناس بأن يلتزم طريق الحق والعدل: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، والأمر هنا موجه إلى كل مسلم يتصدى للحكم وإنهاء المنازعات بين الناس.
والتوجيه القرآني بإقامة العدل بين الناس عن طريق القضاء العادل ليس موجهاً لحاكم المسلمين ولا لعامتهم، فقط بل وجهه الخالق سبحانه إلى أنبيائه ورسله أولا حرصا على تحقق العدل بين أتباعهم، فها هو سبحانه وتعالى يطالب نبي الله داود بذلك، في قوله سبحانه: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله».. وقال الحق سبحانه وتعالى أيضا موجها الحديث لنبيه الكريم: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما».
أقسام القضاء
وقد قسم الفقهاء كما يوضح د. كريمة القضاء إلى خمسة أقسام هي:
قضاء واجب، وبه يلتزم من يتم تعيينه لأداء هذه المهمة العظيمة ولا يوجد غيره لأدائها، أو لا يوجد من هو في منزلته من ناحية الحرص على العدل والكفاءة والإخلاص، فهروب القاضي من أداء هذا الواجب يؤدي إلى ضياع الحق، فيكون قبوله له من الواجبات التي لا يجوز أن يتخلى عنها. قضاء مستحب، وهو أن يوجد من يقوم بالمهمة، ولكن هناك من هو أصلح منه، وهذا الأصلح لا يجوز له أن يتخلى عن أداء واجبه القضائي، خاصة إذا كان هذا هو عمله كالقاضي المحترف للقضاء.
قضاء مخير فيه، وهو أن يتساوى القاضي مع غيره في الصلاحية وأداء المهمة كما ينبغي، وهنا يقوم القاضي بالمهمة أو لا يقوم بها وفقاً لظروفه، ولا حرج في الاعتذار عن القيام بهذا الواجب.
قضاء مكروه: وهو أن يقوم قاض بالقضاء في قضية مع وجود من هو أكفأ منه.
قضاء حرام: وهو أن يتولى قاض قضية ما وهو يعلم عدم قدرته على تحقيق العدل فيها.
مواصفات القاضي
ولأن القضاء من المناصب عظيمة الأثر والخطر كما يقول الشيخ جمال قطب الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالأزهر، فقد اعتنى الإسلام عناية خاصة باختيار رجاله، وتعددت اجتهادات الفقهاء في تحديد مواصفات من يقوم به، لأن رسالة القاضي هي الحكم بين الناس بالعدل، ولابد لمن يتولى هذه المهمة أن يكون أهلا لها.. ومن هنا اشترط الفقهاء في من يتولى منصب القضاء شروطاً أهمها أن يكون موثوقاً في دينه وأمانته، وفي عقله وفهمه للأمور التي يقضي فيها فهماً سليماً ، وأن تكون خلفيته الشرعية والقانونية جيدة.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد في حديثه الصحيح «حكمة القاضي»، وهي علمه وخبرته فيقول: «لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها للناس». وأن يلتزم القاضي العدل في أحكامه سواء أكانت هذه الأحكام تتعلق بالأغنياء أم بالفقراء وبالأقوياء أم بالضعفاء، لأن الشريعة الإسلامية تسوي بين الناس في الحقوق والواجبات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى مع القاضي ما لم يُجر فإذا جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان».. كما يقول صلى الله عليه وسلم: «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار». وفي حديث ثالث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار». وأن يتميز القاضي بعلمه إلى الدرجة التي توصله إلى الرتبة القريبة من الاجتهاد المبني على الفهم السليم لأحكام الشريعة الإسلامية، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المنهج القويم الذي ينبغي أن يسلكه القاضي في قضائه، حين بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن فقال له: «يا معاذ بم تقضي؟» قال: بكتاب الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: «فإن لم تجد؟» فقال: فبسنة رسول الله، فقال له: «فإن لم تجد؟» فقال أجتهد رأيي ولا آلو، ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطوات التي اتبعها معاذ وأقره على ما قال.
وأن يتحلى القاضي بصفة الصبر والأناة، وأن يبتعد عن كل ما يشوش فكره، فلا يقضي أثناء الغضب الشديد.. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان». وهكذا أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذكر خصائص ومواصفات القاضي العادل.. ولابد أن تحرص الهيئات القضائية على إعداد قضاتها إعدادا جيدا كما يقول الرئيس الأسبق للجنة الفتوى بالأزهر وأن يكون القاضي عالما بالأحكام الشرعية وبالقوانين المطبقة في الدولة التي يعمل فيها، وأن يكتسب الخبرات من القضاة المتمرسين عن طريق الدورات التدريبية التي تزيد من قدرات القاضي.
حق الاجتهاد
وللقاضي حق الاجتهاد وإعمال عقله وفكره وثقافته، خاصة إذا كان من أهل العلم والخبرة لكي يسعى إلى تحقيق الحق والعدل، وهو مطالب شرعا كما يقول د. كريمة بأن يعمل عقله ويحكم ضميره ويوظف قدراته للوصول إلى الحق الذي ينشده، وإعطاء كل ذي حق حقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على ذلك فيقول في الحديث الصحيح: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» ومن الواجب على القاضي أن يبذل كل جهده لكي يعطي الحق لصاحبه، ولا يظلم بريئا، وأن يميز بين دعاوى الخصوم، وعدم التفرقة بين المتخاصمين في الاستماع إليهم وفي الاهتمام بأمرهم، ثم بعد ذلك يقضي بما يظهر له أنه الحق.
عمر.. وآداب القضاء
ومما تحمله لنا كتب التراث الفقهي والقضائي عن آداب القضاء رسالة حكيمة بعث بها الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري «عبد الله بن قيس»، وكان أحد أبرز قضاته..
قال عمر في رسالته الحكيمة: «من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن قيس.. سلام الله عليكم.. أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم الحق ونفذه وسو بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في ميلك معه لشرفه، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالا، ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك، وحديث فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما تردد في صدرك مما ليس في كتب السنة، ثم أعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عندئذ.
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور.. وإياك والقلق والضجر وضيق الصدر، فإن الحق في مواطن الحق، يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر.. ومن صمت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس.. والسلام».
شروط الدعوى
وينبغي على القاضي أن يعلم كل العلوم والمعارف التي تساعده على الوصول للحق من علوم شرعية وقانونية ومعارف تفيد في تحقيق العدالة، وأن يقف على الدعاوى والبينات.
والدعوى القضائية كما يشير د. كريمة لها شروط وضوابط ينبغي أن يعلمها القاضي، ومن أبرز هذه الشروط أن يكون المدعي والمدعى عليه بالغين، عاقلين، فلا تقبل الدعاوى لا من الصغار ولا من الذين ثبت عدم اكتمال عقولهم كالمجانين والمعتوهين.
أيضا.. لا دعوى قضائية بلا دليل، فلكي تثبت الدعوى من المدعي على المدعى عليه لابد من الإتيان بالأدلة الواضحة، وبالبراهين المقنعة التي تدل على أن صاحب الدعوى على حق فيما طلبه.. وفي الوقت نفسه على المدعى عليه أن يأتي بما يشهد له بأنه على حق وأن المدعي لا حق له فيما طلبه.
ومن الثقافة التي ينبغي أن يتسلح بها القاضي معرفة ضوابط «الإقرار»، وهو اعتراف الإنسان بما نسب إليه من قول أو فعل، باعتباره سيد الأدلة.
أيضا على القاضي أن يميز بين شهادات الشهود ويفحصها جيدا، والقاضي الخبير يستطيع أن يميز بين شهود الحق وشهود الزور، وأن يعتمد على شهادة العدول، ويرفض شهادة هؤلاء الذين يبيعون دينهم بدنياهم.