صورة مقرّبة للفنون التشكيلية الفلسطينية

من التطريز وأطباق القش والصلصال إلى لوحة المقاومة
00:25 صباحا
قراءة 7 دقائق
د . عبدالكريم السيد

لقد أصبح الفنان الفلسطيني على مر العقود الخمسة السابقة أكثر وعياً ودراية بتراثه الفني الغني، والذي يعود إلى عهد "الكنعانيين"، الذين يعتبرون أول سكان فلسطين . وتعود جذور هذا التراث إلى الفنون البيزنطية، إضافة إلى الفنون العربية الإسلامية، والفنون الشعبية الفلسطينية . صحيح أنه أقصي عن تراثه، ولكنه يناضل من أجل سد هذا الفراغ، عن طريق الارتباط بإرثه .
إن علاقة الفنان الفلسطيني الوثيقة مع فنونه الشعبية ستظل دائماً قائمة . حيث يعرف التطريز الفلسطيني الذي يزين ثوب المرأة الفلسطينية على مر العصور، بقيمته الفنية الكبيرة، فألوانه الغنية وتصاميمه الخلابة جذبت اهتمام العديد من الفنانين الفلسطينيين . إنها محفورة في ذاكرته، وهو يسترجعها لاحقاً ويعكسها في أعماله الفنية . 
قبل العام ،1948 كان النشاط الفني الفلسطيني متواضعاً جداً . حتى المحاولات أو التجارب القليلة في الرسم التي ظهرت في ذلك الوقت، كانت غير احترافية . ويرجع ذلك إلى الظروف المضطربة وغير المستقرة التي عانتها الساحة الفلسطينية طوال النصف الأول من القرن الماضي . ولكن على رغم هذه الظروف غير المواتية، تمكن العديد من الفنانين من تقديم وعرض مواهبهم الفطرية . حيث اقتصر في مراحله الأولى على الفن التطبيقي والصناعات اليدوية، كأي فن في أي مجتمع زراعي، لأن علاقة الفلاح بالفن نفعية محضة، فاقتصرت الأعمال على تزيين أدوات الزراعة أو السلاح، أو ظهرت بوادر الحركة التشكيلية الفلسطينية الحديثة في النصف الأول من القرن العشرين إبان الانتداب البريطاني . . تزيين أطباق القش أو الملابس المطرزة، وتحولت بعض هذه الأعمال التطبيقية إلى سلع يبتاعها الفلاحون، ذلك أن الفلاح كان يقوم بها لنفسه .
كانت المرأة هي التي تقوم بأعمال الزينة هذه، وقلما يقوم بها الرجال، لتفرغهم لأعمالهم الإنتاجية، ولكن بعض الحرفيين الذين كانوا يصنعون بعض الأدوات كانوا يقومون بتزيينها، كان بعضهم يبدع في ذلك إلى درجة كبيرة، إلا أن الهدف كان لترويج تلك السلعة في المقام الأول .
ولكن بعض الأشكال من أعمال هؤلاء الحرفيين كانت تفرض نفسها، كتلك النقوش الموجودة على حجارة مداخل الأبواب، أو تلك الألوان والتكوينات الساذجة التي ترسم على مداخل البيوت بمناسبة العودة من الحج، تحيط بها الآيات الكريمة والأسماء الحسنى وأسماء الرسول والصحابة، أو تلك الزخارف التي تتكرر على جدران غرف بعض أغنياء الفلاحين .
ولكن دبيب الحياة وتغير أشكال الإنتاج وظهور تجارة الصناعات الفنية اليدوية السياحية التي انتعشت في مناطق كالقدس، وبيت لحم، والخليل، وغزة، طور وعياً وأفكاراً جديدة، فأخذت بعض الأشكال من الفنون التطبيقية تنتقل إلى مجال أوسع، وتتجه نحو أشكال جديدة من الإبداع، لكن هذه الصناعات ظلت محصورة في إطار ضيق إلى أن تخرج في هذه الفترة عدد من الفنانين الفلسطينيين في كليات الفنون الأوروبية، من هؤلاء الفنان حنا مسمار، الذي درس الخزف فجاءت أعماله بأسلوب تعبيري واضح، حيث تناولت موضوعات وطنية مثل أحداث مجزرة دير ياسين، وكفر قاسم والنزوح عن أرض الوطن، مازجاً ألمه في خامة الصلصال، كما أبدع مسمار في زخرفة الأواني الخزفية (الفخارية) بمنحوتات بارزة (ريليف) .
من النحاتين الفلسطينيين الأوائل، محمد الدجاني، الذي عالج عدداً من القضايا الإنسانية، كذلك هناك الأخوان جمال وعبدالرزاق بدران، حيث اشتهرا بالفن التطبيقي وعملا بالتدريس لفترة طويلة، وقد تدرب على أيديهما عدد من الحرفيين على زخرفة الخشب والجلد والنحاس والزجاج ومن أشهرهما، الفنان جمال بدران، ولد في حيفا، فلسطين في العام ،1905 ودرس فن الزخرفة والخط العربي في القاهرة في العام ،1927 وتوجه بعد ذلك إلى لندن لدراسة الفنون التطبيقية . واكتشف العديد من المواهب الواعدة التي قام برعايتها والاهتمام بها، حتى أنه شجعها على دراسة الفنون في القاهرة في منتصف الثلاثينات .
درس الفنانان حنا مسمار وفضول عودة، من مدينة الناصرة الفنون في العشرينات من القرن الماضي، حيث درس حنا فن الخزف في ألمانيا، بينما درس فضول الرسم والتصوير في إيطاليا . وعلى الرغم من ذلك فإن أعمالهما كانت محدودة للغاية . هناك من الفنانين من مارس فن الخط العربي، منهم يوسف النجار والخطاط محمد صيام، كما ظهر فنانون كثيرون لم تسنح لهم الظروف للتفرغ للعمل الفني، مثل داوود الجاعوني وخيري بدران وغيرهما . لو نظرنا إلى تلك المرحلة لوجدنا أن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد أثرت بشكل سلبي في نمو الحركة التشكيلية الفلسطينية منذ بدايتها، لذا بقيت ضعيفة . القليل جداً من الفنانين الذين تمكنوا من رسم اللوحات الزيتية بالأسلوب الغربي، وقبل عام 1948 كانت المعارض الفنية، في شكلها الحالي اليوم، حيث يتم عرض لوحات في صالة عرض عامة، لفنان واحد أو لمجموعة من الفنانين، شبه معدومة .
وكانت للأحداث الكارثية التي حدثت في العام 1948 أثر بالغ في المواهب الفلسطينية، فبدلاً من الاستسلام لحياة العوز والفقر المدقع في مخيمات اللاجئين، اتجهوا إلى أكاديميات ومعاهد الفنون .
ومن أوائل هؤلاء، الفنان إسماعيل شموط (الذي أقام أول معرض في غزة عام 1953)، وزوجته تمام الأكحل (أول امرأة فلسطينية تدرس الفنون) حيث برزا في القاهرة، وتوفيق عبدالعال وميشيل نجار، في لبنان، وإبراهيم هزيمة، وسمير سلامة، في سوريا، وسامية طقطق، ومحمد بوشناق، وعفاف عرفات في الأردن، ومحمد أبو عسكر، وعبدالعزيز العقيلي، وشفا شعث، والشموط الثلاثة (جميل وعمر وأمين في غزة)، ومصطفى الحلاج في مصر .
تنتمي لوحات فترة الخمسينات من القرن المنصرم إلى المدرسة الواقعية التعبيرية، مع تطبيق قليل للرمزية . يعود ذلك لأسباب عدة منها أن أكاديميات الفنون العربية تدرس الفنون وفقاً للطرق الأكاديمية، على سبيل المثال محاكاة المنظور المرئي للمواد . والسبب الثاني، أن فناني تلك الحقبة كانوا من الناجين من حرب عام 1948 الرهيبة، ومِمنْ سكنوا مخيمات اللاجئين البائسة، لقد درسوا الفن ليس كفن جميل، ولا لأجل الفن، ولكن باعتباره كان أفضل وسيلة لنقل مشاعرهم من خلاله، ولتصوير معاناتهم كفلسطينيين، وللتعبير عن طموحاتهم كأناس يسعون جاهدين لاسترجاع وطنهم .
لقد كرس الفنان الفلسطيني في فترة الخمسينات، نفسه دائماً للقضية الفلسطينية، فتفانيه هذا مسألة اختيار شخصي، يعبر من خلالها بحرية كاملة، وهي خالية تماماً من أية قيود سياسية أو أيديولوجية . مع بداية الستينات، بدأ الفلسطينيون يشعرون برياح تغيير تهب عليهم . فقد بدأ مفهوم الشخصية الفلسطينية والهوية الفلسطينية الضائعة يتأكد بشكل كبير . تم تشكيل منظمات فدائية، وهرع إليها الرجال والنساء لملء صفوفها . كما تم الإعلان عن منظمة التحرير الفلسطينية، وأطلقت الطلقة الأولى، وبدأت الثورة الفلسطينية - والكفاح المسلح الفلسطيني .
لقد كان الفنانون الفلسطينيون في طليعة حركة الكفاح هذه، وعكست أعمالهم في تلك الفترة صوراً توضح بزوغ فجر الثورة الفلسطينية . لقد كانت أعمالهم تقدم لمحات للأحداث المقبلة . وهذا يدل بشكل واضح لا لبس فيه على عمق إيمان الفنان الفلسطيني بالقضية الفلسطينية، وعلى مقدرته على التنبؤ بمجريات الأحداث، مقدرة استقاها من انخراطه الدائم بالقضية، إضافة إلى وعيه الكامل بجميع التطورات، ذات الصلة . لقد أسهمت حرب 1967 في بروز الفلسطينيين وممثليهم الشرعيين، ومنظمة التحرير الفلسطينية، ككتل عربية وحكومات تثيرها التهديدات الصهيونية . إن حركات الفدائيين والتي جاءت في أعقاب فترة "وقف إطلاق النار"، عززت بشكل كبير مكانة وفعالية منظمة التحرير الفلسطينية ما انعكس إيجاباً على الفنان التشكيلي الفلسطيني وعلى إنتاجه الفني .
مع بداية الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية وقطاع غزة عام ،1967 وجد الناص أن المعركة ضد الاحتلال تتطلب حشد كل الطاقات والوسائل، ووجد العديد من الشباب أن سلاح الفن في المعركة هو أحد الأسلحة المهمة، لذلك ظهرت حركات فنية لم تكن موجودة من قبل، من بينها حركة الفن التشكيلي التي رافقها تخرج عدد من الفنانين التشكيليين في الكليات والمعاهد المختلفة من دول عربية عدة .
ولدت الحركة التشكيلية الفلسطينية (الحديثة) قوية واعية، ارتبطت بالجماهير ارتباطاً عضوياً وحملت هماً نضالياً ضد الاحتلال وفناً مقاوماً بكل ما تحمله الكلمة من معنى للمقاومة . لقد استطاع الفن التشكيلي أن يجسد طموحات الجماهير، كما استطاعت الأعمال التشكيلية أن تنفذ إلى أعمال الناس وتتفاعل معهم، بالتالي، استطاع الفنان في الأرض المحتلة أن يمارس دوره النضالي، للدرجة التي أرعبت سلطات الاحتلال ما جعلها تتصرف بطيش، فقد قامت تلك السلطات بمصادرة وإتلاف أعمال عدة للفنان سليمان منصور، والفنان محمد حمودة، كما قامت، أي السلطة الصهيونية بدهم مكتبة بلدية نابلس ومصادرة لوحة "الدم والذهب الأسود" لإسماعيل شموط، ولوحة الشهيد الفنان بشير سنوار، وكانت قبل ذلك في عام 1967 عندما احتلت مدينة خان يونس قد أخذت (سرقت) سبعين لوحة زيتية وعدداً من الاسكتشات لبشير سنوار، وأقامت بها معرضاً كتبت عنه بثلاث لغات كيف نعلم أولادنا الحقد على "الإسرائيليين" .
قام الفنان عصام بدر، حرصاً منه على التواصل واللقاء الدائم بين الفنان والجمهور بافتتاح جاليري 79 في مدينة رام الله وجعله معرضاً ومتحفاً دائماً للفن الفلسطيني، إلا أن سلطات الاحتلال هددت الفنان بدر أكثر من مرة وأوقفته وأغلقت الجاليري لاعتبارها أن الأعمال المعروضة أعمال تحريضية .
تم تشكيل الاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين في العام ،1969 والذي أخذ على عاتقه بالتعاون من إدارة الإعلام والثقافة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، مهمة تنظيم قدرات الفنانين، وتوحيد جهودهم ونشر أعمالهم من خلال معارض فردية أو جماعية تقام في الداخل والخارج . كان لهذه التطورات الجديدة تأثير ملحوظ في إنتاجات الفن الفلسطيني، سواء من حيث الشكل أو المحتوى . ففي الشكل، يبدو أن اللوحة تخلصت من الأسلوب الواقعي أو الأسلوب التعبيري الواقعي، وبدأ استخدام مفاهيم جديدة كالرمزية، والسريالية، والفطرية . والأعمال التي تعتمد الألوان كأعمال فنية، ولكن رغم ذلك نجد أن اللوحة لم تصل بعد الى التجريد المطلق .
وقد كان لجميع الفنانين الفلسطينيين سواء المقيمون في (الأراضي المحتلة بعد 1948) أو في الأراضي المحتلة بعد ،1967 أو لاجئين في دول عربية وأجنبية، قاسم مشترك واحد - إضافة إلى مشاعر وأهداف مشتركة، فمعظم لوحات الفنانين الفلسطينيين تتناول "محتوى" فلسطينياً من زاوية أو أخرى . فالأسلوب - بطريقة ما أو أخرى - هو تصويري، ومع ذلك لايزال هناك بعض الفنانين اختاروا استكشاف مسائل تتعلق بالشكل أو بتجريب أساليب مجردة .
أخيراً، ومع تزايد عدد الفنانين الفلسطينيين، حيث بلغ عددهم نحو 700 فنان في جميع أنحاء العالم، على الرغم من تأخر ظهور الحركة الفنية الفلسطينية المعاصرة، مقارنة بالحركات العربية الشقيقة، وبلوغ الفن الفلسطيني بالكاد 50 سنة، قد حقق مركزاً وحضوراً جديداً بالاهتمام . إنها تقف على قدم المساواة مع الحركات الأولية للفنون العربية وغير العربية . ومع ذلك لديها شوط طويل لتقطعه، لإبداع وتميز لا حدود لهما .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"