وليد غلمية .. المايسترو والموسيقار

رحل عن 67 عاماً موسيقا و20 في إدارة الكونسرفاتوار و35 مسرحية
18:59 مساء
قراءة 6 دقائق

غيب الموت ركناً موسيقياً أساسياً في لبنان ودنيا العرب، بما يعني أن الحياة الموسيقية من بعده لن تكون هي التي عرفنا ديناميكيتها وحضورها معه . كان سيد منبره مع عصا المايسترو وكان قائد مسيرة نغمية أوجدت في كل بقعة من لبنان معهداً موسيقياً، فأدخله بعدها في خضم العالمية من خلال استحداث أوركسترا سيمفونية فيلهارمونية أعقبت نموذجي الأوركسترا الوطنية، والشرق عربية، وكان سباقاً في إخضاع النظام السيمفوني العالمي لمقتضيات التأليف الشرقي، فأوجد ست سيمفونيات وترك للمسرح عشرات الأعمال التي تشهد على قدرات ومعطيات تشهد على خصوصيته، مثلما وقع العديد من الأفلام من خلال موسيقا تصويرية قادرة على تفعيل حضور الصورة أكثر من خلال الأنغام الموازية والمؤثرة .

مات وليد غلمية ابن قرية مرجعيون الجنوبية وفيها عرف الموسيقا منذ نعومة أظفاره في سن السادسة وعاد إلى مدافن عائلته فيها بعد رحلة 73 عاماً قدم منها للموسيقا 67 عاماً زاخرة بالأفكار والنظريات والعمل الأكاديمي والميداني، ما بين لبنان وأمريكا والجامعة الأمريكية في بيروت وجامعة كنساس التي تلقى فيها الدراسة في قيادة الأوركسترا والعلوم الموسيقية وحاز الدكتوراه التي كانت محط تشكيك من الإخوة سليم وفيكتور والياس سحاب، وخاضوا من أجلها حملة واسعة استهدفت إسقاطه عن رئاسة الكونسرفاتوار على مدى عشرين عاماً، أثبت خلالها أنه أهل لهذا المنصب من خلال العمل على إيجاد فروع للمعهد العالي للموسيقا في كل مناطق لبنان تتيح للدراسين الالتحاق بها في مناطقهم، وهو ما جعل من الكونسرفاتوار صرحاً علمياً موسيقياً، استقطب المئات من الشباب والشابات الذين أثروا بدراساتهم الواقع النغمي في لبنان .

وشرع غلمية الأبواب على مصاريعها لاستقبال الجمهور المتذوق في حفلات أسبوعية تعزف خلالها الأوركسترا اللبنانية، أو الشرق عربية، أو حتى السيمفونية مختارات من إبداعات الكبار (باخ، شوبان، بيتهوفن، رحمانينوف، رافل وغيرهم) من دون أي مقابل مادي، فإذا هذه السهرات الموسيقية كاملة العدد من أنماط متعددة .

ثم استقدم كبار قادة الأوركسترا في العالم لكي يقودوا عازفي لبنان ويثروا تجربتهم، وأعطى فرصاً مكثفة للشباب العازفين لكي يحضروا مع المخضرمين، متخوفاً على الدوام من شغور المكان والحال العامة من جيل يأخذ المبادرة ممن سبقوه ويتابع مسيرة الأنغام بسوية وعمق وحب، لذا كان طبيعياً ملاحظة عازفين من جيل قديم مع آخرين في نصف عمرهم أو ثلثه احياناً، ما أوجد الآن جيشاً من الشبان القادرين على الحلول مكان الجيل الذي سبق بجدارة وقدرة خاصة على التناغم والانسجام .

ولم تتوقف الأمور هنا بل رصد غلمية حضور الطاقات اللبنانية في أوروبا وأمريكا والعالم وتواصل مع أصحابها واضعاً إياهم في صورة الخطط التي طالما اشتغل عليها، وطرح على بعضهم العودة الى لبنان بموجب عقود عمل مع واحدة من الأوركسترات الثلاث، راغباً، كما قال: في حلول اللبناني مكان الأجنبي في قيادة هذه الفرق الكبيرة حتى لا نظل أسرى الاستعانة بالخبرات الأجنبية، خصوصاً أن عندنا من المواهب الكبيرة والدارسة والحاضرة عالمياً ما يجعل إمكانية ملء الفراغ متاحة جداً، والعائق الوحيد كان دائماً هو الأوضاع في لبنان، بحيث يفضل الكثيرون العمل مع الموسيقا في مناطق أكثر أمناً وهدوء لكي يتمكنوا من التصالح مع المهنة .

الإنجاز الوحيد الذي لم يعش ما يكفي لمعايشته والسعادة به هو وجود الأوبرا في لبنان .

لقد اشتغل بكل طاقته وعلاقاته، وأدبه على إيجاد مقر يجمع فيه العازفين ويعطيهم المجال رحباً لإجراء بروفات، ومن ثم إقامة حفلات حتى لا تظل خشبات محددة القادرة على استيعاب فرق أوركسترا، فكيف تستوي الحال مع ثلاث أوركسترات مهمة ونموذجية من دون مكان يجمع عناصرها .

وكان مسعى غلمية لإنشاء أوبرا أثمر قبل سنوات قليلة بالفوز بقطعة أرض محاذية لقصر العدل (شرقي بيروت)، لكن بعض الإشكالات على ملكية هذه الأرض اخرت المشروع ثم استبعدته، وعادت قضية الحصول على مكان للأوبرا إلى نقطة الصفر مجدداً من دون فتور همة غلمية حتى آخر لحظات حياته .

عرفت غلمية المهرجانات العديدة ما بين بعلبك، جبيل، الأرز، وما قدمه على خشبة مسرح الفينسيا، وكان فاعلاً في مهرجانات الصيف الكبرى، أيام عز العطاءات والتنافسات الكبيرة، يوم كان عاصي ومنصور الرحباني، وزكي ناصيف، وفيلمون وهبي، وتوفيق الباشا، وروميو لحود في عز عطائهم وتنافسهم مما أمن للجمهور وحتى يومنا هذا ثروة من الموسيقا والالحان والاعمال الكبيرة التي لم يبلغها اي عمل حتى الآن .

قول للحلوة أحلالا، التي غنتها فدوى عبيد من ألحان غلمية هي النموذج الاكثر سطوعاً لحسه الشرقي في تعاطيه مع الانغام والمدارس العريقة لبنانياً وعربياً، مما أوجد أسئلة كثيرة طالما طرحت على غلمية في لقاءات ومؤتمرات مختلفة، وكان جوابه ما من أحد يخرج من ثوبه من تربيته، من البيئة التي ترعرع وشب فيها، لكن من قال إن هناك سجناً كبيراً اسمه التراث، ابداً، دنيا الموسيقا شاسعة ورائعة وعلى أصحاب المسؤوليات الموسيقية اخذ المبادرة دائماً ودخول العوامل الرديفة هنا وفي الخارج ينهل أكبر قدر من الإقناع، لذا لم اغب قط عن موسيقات العالم وتعاملت معها على أساس أن الانغام حالة عالمية، لذا ايضاً كانت السيمفونيات (القادسية، الشهيد، المتنبي، اليرموك المواكب، والقطار الأخضر (للشاعر سليمان العيسى) .

وعندما كان يسأل في السبعينات ما الذي يدفعك لان تقدم هذا النوع من الموسيقا الذي يعيشه ويعرفه القريبون ولا يدري عنه إلا قليل من العرب، كان يرد: رهاني على الزمن . أنا أشتغل للموسيقا، لقيمتها وحضورها ورفعتها وستعرفون غداً ما معنى العمل على هذا النمط والاهتمام به .

ودعماً لهذا الموقف كان تعاونه مع لجنة مهرجان البستان الموسيقي، الذي شغل حيزاً من الاهتمام النخبوي على مدى سنوات، في وقت أعطى جهداً خاصاً لأعمال مسرحية مع مخرجين ضالعين أمثال (ريمون جبارة روجيه عساف، يعقوب الشدراوي، ميشال نبعة) .

وتعاون مع زميليه: توفيق كرباج وأنطوان فرح في تأليف كتاب نظريات الموسيقا الشرقية واشتغل على الموسيقا التصويرية للأفلام وكانت له محطتان بارزتان في هذا الخصوص .

بيروت يا بيروت الذي أطلقه الراحل مارون بغدادي عام ،75 وتنبأ بكل الحرب التي شهدها لبنان منذ 36 عاماً وحتى الآن، وشارك في بطولة الشريط الفنان عزت العلايلي في دور عربي يوجد في بيروت خلال فترة غليان اليساريين والحال العامة التي سبقت اشتعال الحرب في 13 نيسان/ابريل من ذلك العام .

كفر قاسم لبرهان علوية، وفيه قراءة ميدانية للمجزرة الشهيرة التي ارتكبها الصهاينة، وهو الشريط الذي حاز العديد من الجوائز في مهرجانات إقليمية .

لم يتبدل يوماً موقفه من الأخوين رحباني، وقال عن نتاجهما الموسيقي بأنه منقول بالكامل من موسيقات عالمية تصورا أن أحداً لن يهتدي اليها، لذا عملا براحة، وفق رأيه، معتقدين أن هذه الحيل ستنطلي على الفاهمين والناس في آن واحد .

أضاف: الأيام ستثبت صحة ما أقوله وصوابيته وأنا مسؤول عن كلامي مئة في المئة .

المشكلة التي واجهت غلمية في هذا الإطار أن قلة قليلة وقفت إلى جانبه في هذا الإطار، وهو مثله مثل زكي ناصيف وغيره، أخذ على الرحابنة عدم إعطائهما فرصة التعامل مع صوت الكبيرة فيروز، وإن كان ناصيف لحن لها يا بني أمي لكن بعد وفاة عاصي وقبل رحيل منصور رحمهما الله .

وكان غلمية دافع في فترات عديدة عن عدم إدراج نتاج الرحابنة في مناهج الكونسرفاتوار، تاركاً الخيار لاحقاً للطلبة كما للأساتذة ان يعرفوا ماهية هذا القرار ومعناه وبعده عن التشفي، وكانت له اشادات ب: توفيق الباشا وزكي ناصيف ومارسيل خليفة، وكانوا زملاءه في دورات استديو الفن المتعاقبة .

هبة القواس، ايليا فرنسيس من أبرز الأصوات التي راهن عليها غلمية في مجال الغناء الأوبرالي وكان داعماً لنشاطاتهما بشكل لافت وتواصل على الدوام مع عازف البيانو العالمي عبدالرحمن الباشا، وأفرد له أكثر من مرة خشبة مسرح بيار أبوخاطر في بيروت لإقامة ليالي عزف .

كما انه استقبل مرتين غبريال يارد المؤلف الموسيقي العالمي وأول من حمل أوسكاراً من بين كل الفنانين العرب عن موسيقاه التصويرية لفيلم المريض الإنجليزي، وكذلك الحال مع زاد ملتقى (نجل أنطوان ولطيفة ملتقى) والعديد من اللبنانيين الذين عرفتهم المنابر العالمية وصفقت لهم مثل هاروت فازليان أيضاً تواصل طويلاً مع عازف البيانو وليد مسلم المطروح اسمه حالياً أحد المرشحين الأقوياء لخلافته، كونه من المقربين جداً له، وهو يتمتع بخبرة موسيقية عالية جداً، ومتمرس في شؤون الكونسرفاتوار . بينما توجد ملامح معركة مؤكدة يفترض ان يخوضها من كانوا أهدافاً لآرائه السلبية وتحديداً ورثة الفنان منصور الرحباني، ونقصد بهم: مروان، وغدي وأسامة (يستعدون لتقديم مسرحية دون كيشوت في افتتاح مهرجانات بيبلوس الدولية في 28 حزيران/يونيو الجاري) والمايسترو سليم سحاب، بينما طرح اسم مارسيل خليفة بقوة، وهناك من رشح الفنان إيلي شويري .

لكن أياً تكن الآراء فيه، والكلام عنه، فإن وليد غلمية الذي أحدث على الدوام حراكاً نوعياً على الساحة الموسيقية، سيترك فراغاً حقيقياً يصعب التكهن بإمكانية تعويضه مع خلفه . إلا إذا التزم الوافد الجديد نهج غلمية وخطه، خصوصاً في السعي لاستحداث دار أوبرا لبنانية تستوعب الأوركسترات الثلاث، وجمهوراً يتضاعف عدده يوماً بعد يوم .

وفي 11 حزيران/ يونيو الجاري ووري جثمان غلمية في الثرى في بلدته مرجعيون، من دون أن تطوى حقبة ثرية من العطاء والتبدل والاجتهاد في خدمة الموسيقا وهو القائل:

الموسيقا كالمرأة لا ترضى أن يخونها صاحبها في حب أي شيء آخر .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"