النقمة على الهيئات الدولية

03:07 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

من دواعي الاستغراب أن تتعرض هيئة دولية لحملة مريرة عليها؛ لمجرد أنها تسعى لإحقاق العدالة، لدى النظر في جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
الهيئة المقصودة هي المحكمة الجنائية الدولية ومقرها لاهاي في هولندا، وهي ليست هيئة ضيقة، أو تكتلاً محدوداً؛ إذ تضم في عضويتها 123 بلداً. مصدر الحملة كان من الولايات المتحدة، وعلى أعلى المستويات في الدولة العظمى؛ وذلك لكون المحكمة تُعد العُدة للنظر في تجاوزات للقوات الأمريكية في أفغانستان. ويبدأ النطاق الزمني للمحكمة منذ عام 2002 تاريخ إنشاء المحكمة التي تقيم تعاوناً مع الأمم المتحدة.
من غرائب الأمور أن الولايات المتحدة نفسها قد نظرت في جرائم منسوبة للقوات الأمريكية في أفغانستان؛ لكن الرئيس دونالد ترامب أوقف النظر في هذه القضايا، وعفا عن المتهمين. وقد امتنعت واشنطن عن الانضمام إلى عضوية المحكمة، ولم تكن أمريكا الدولة الوحيدة التي اتخذت هذا الموقف، فقد وقفت إلى جانبها دول أخرى مثل الهند والصين وروسيا و«إسرائيل».
الحملة الأمريكية على المحكمة الجنائية، وشن التهديدات ضدها؛ أدى إلى فرض عقوبات على موظفين كانوا يهيئون ملفات القضايا. وقد تمتد العقوبات لتشمل عائلات هؤلاء الموظفين، ولم يمر الموقف الأمريكي المستغرب بغير ردود فعل؛ إذ وصفت المحكمة الجنائية الدولية هذا التطور بأنه يصل إلى حد «التهديد والإكراه»، وأنه «محاولة غير مقبولة للتدخل في حكم القانون». ولعلها حقاً مفارقة كبيرة أن تفخر الدولة العظمى بجهازها القضائي، وحكم القانون فيها، وأن تناصب العداء في الوقت ذاته لهيئة قضائية دولية، مع توجيه اتهامات بغير سند لهذه الهيئة من قبيل اأها مُسيسة، وأنها تخدم مصالح بعض الدول، وقد جرت تسمية روسيا بهذا الخصوص، علماً أن روسيا ليست من الدول الأعضاء التي صادقت على إنشاء المحكمة، شأنها في ذلك شأن أمريكا. فيما عبّر وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، عن «قلق الاتحاد الأوروبي البالغ» من الإجراءات الأمريكية.
وفي سياق المواقف، لم يخفِ المسؤولون الأمريكيون، وعلى رأسهم ترامب قلقهم من أن تتعرض حليفتهم «إسرائيل» للنظر القانوني من طرف المحكمة الجنائية. وتشن «تل أبيب» على الدوام حملات على هذه المحكمة؛ وذلك ليس بالأمر المستغرب، فالأمم المتحدة نفسها، الهيئة الدولية الأعلى مكانة، تتعرض للذم والازدراء من قبل «تل أبيب»؛ كلما تحركت أو اتخذت موقفاً يناصر قضية العدالة، فكيف ستكون الحال مع هيئة أقل منها؟
من دواعي الأسف أن تتخذ الدولة العظمى مواقف انعزالية وسلبية تجاه الهئيات الدولية، كما هي الحال مع منظمة اليونسكو، ومنظمة الصحة العالمية، ثم المحكمة الجنائية الدولية، أو من اتفاقات دولية كتلك المتعلقة بالمناخ، واتفاقات التسليح، وسواها؛ وذلك بدلاً من دعم هذه الهيئات، والسعي مع الدول الأخرى إلى تطوير عملها، وسد الثغرات فيها متى ما وجدت، وتمكينها من العمل على أفضل وجه ممكن، وتشجيع بقية الدول على الانضمام إلى هذه الهيئات الجماعية؛ وذلك لتعزيز صورة التعاون الدولي وواقعه.
سبق للمحكمة الجنائية الدولية أن نظرت في جرائم ارتكبت في القارة الإفريقية، ولم يتعرض أداء المحكمة، ونظام عملها، وآلية النظر في القضايا المحالة إليها، إلى أي نقد، أو طعن في مستوى تمسكها بالمعايير القضائية الدولية. على أن المحكمة لا تمتلك جهاز شرطة خاصاً بها، وتنفيذ أحكامها؛ يتطلب تعاون الدول الأعضاء، ودعماً من الأمم المتحدة؛ وذلك بخلاف الحال مع محمة العدل الدولية التي تعد جزءاً من هيئات الأمم المتحدة، وقضاتها يتم انتخابهم من قبل المنظمة الدولية، ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 1946، وتختص هذه الهيئة بالنظر في النزاعات القانونية بين الدول حول الحدود على الأخص. أما المحكمة الجنائية الدولية فهي معنية بعدم إفلات المتهمين بجرائم كبيرة من العقاب الدولي، كما يؤكد ذلك المسؤولون الهولنديون الذين تستضيف بلادهم جنباً إلى جنب محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدوليتين، ونطاق عملهما متكامل، ولا تضارب أو ازدواجية فيه.
وليس معلوماً الآن إلى أي مدى سوف يتأثر نظر المحكمة الجنائية في سلوك القوات الأمريكية في أفغانستان؛ بعد التهديدات التي اقترنت بإجراءات ضد أشخاص على صلة بالمحكمة أو يتعاونون معها، على أنه من الواضح أن الطريق نحو إرساء العدالة في هذه المسألة سوف يكون أكثر مشقة، كما أن علاقات واشنطن والاتحاد الأوروبي سوف تتأثر، وتتعرض لنكسة جديدة، وخاصة مع البلد المستضيف للمحكمة هولندا، وهي من أكثر الدول الأوربية تمسكاً بهذه الهيئة القضائية، والتي أبدت انزعاجاً شديداً وعلنياً على لسان وزير خارجيتها ستيف بلوك من الإجراء الأمريكي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"