لماذا إثارة النزاعات الدينية؟

04:49 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي 

أثار قرار أردوغان جدلاً كبيراً ونقداً حاداً في العديد من عواصم العالم، وذلك لما يثيره من حساسيات دينية، العالم في غنى عنها دائماً.

بالكاد يجد المرء صورة أو بطاقة سياحية لإسطنبول لا تظهر فيها مئذنة مخروطية لمسجد من جملة مساجد المدينة التي يبلغ عددها نحو 3 آلاف و269 مسجداً، ومع ذلك فقد عمدت السلطات هناك إلى تحويل متحف أيا صوفيا إلى مسجد. وسبق لهذا المكان أن كان كنيسة بيزنطية تعتبر قلب العالم المسيحي آنذاك، قبل فتح القسطنطينية عام 1453، ومع الفتح تم جعلها مسجداً لأقل من خمسة قرون، ثم جعلها الرئيس مصطفى كمال اتاتورك عام 1935 متحفاً وقد جاء القرار مشفوعاً بعبارة «إهداء إلى الإنسانية». وليس معلوماً الآن ما هي الهدية التي ينطوي عليها القرار الجديد، الذي وجد غطاء قضائياً له يسهل الحصول عليه.

وكما كان منتظراً ومتوقعاً، فقد أثار القرار جدلاً كبيراً ونقداً حاداً في العديد من عواصم العالم، وذلك لما يثيره من حساسيات دينية، العالم في غنى عنها دائما، وفي هذه المرحلة بالذات. وأن يقال في إسطنبول وعلى لسان جهات رسمية، بأن المسألة داخلية محض وتتعلق بالسلطات المحلية حصراً، فهذا ما يجافي المنطق ويصطدم بطبيعة الأشياء، ذلك أن دور العبادة في كل مكان تهفو إليها أفئدة جميع المؤمنين بها بصرف النظر عن أعراقهم أو مدى اقترابهم وابتعادهم الجغرافي عن المكان، وخاصة تلك الأماكن العريقة ذات المكانة التاريخية، أو التي يرد ذكرها في الكتب المقدسة. فالأديان بطبيعتها عالمية. و«أيا صوفيا» كانت مركزاً للمسيحية الأرثوذكسية لتسعة قرون. وقد ارتضى العالم بالمجمل وبصورة أو بأخرى، بجعل المكان متحفاً، وذلك في إشارة إلى أهمية تفادي إثارة النزعات الدينية، وأصبح المتحف يحظى برعاية اليونيسكو باعتباره جزءاً من التراث الإنساني الثقافي واجب الحفظ والرعاية. ولا شك أن تحويل هوية هذا الصرح، يحمل قدراً من المساس بالقيمة المتعارف عليها لهذه «التحفة المعمارية» من طرف الأمم المتحدة كما لدى بقية العالم والأسرة البشرية.

وإذ تتوفر مدينة إسطنبول على مساجد عديدة، وإذ يدين أغلبية الأتراك بالإسلام الحنيف الذي يبيح أداء العبادات والصلوات في أي مكان وأية بقعة طاهرة، ولا يحصر الأمر في المسجد أو الجامع، فإنه مما يثير الاستغراب حقاً الاندفاع إلى هذا الإجراء، الذي يثير الانطباع بأن هناك توجهاً لأسلمة كل شيء بما في ذلك الأماكن ذات الخصوصية والتي يتشارك اتباع ديانتين توحيديتين مثل أيا صوفيا بالتعلق بها، وهو ما لا تحتاج إليه تركيا ولا العالم الإسلامي في هذه المرحلة، وذلك لما يبثه من رسائل سلبية، تومئ بالضيق من التعددية الدينية والثقافية، والتوجّه نحو أحادية دينية.

يتمنى المرء أن يتم التراجع عن هذا القرار، والحفاظ على هوية المكان التي استقر عليها منذ 85 عاماً، باعتباره متحفاً يجمع البشرية على اختلاف عقائدها الدينية، وباعتباره معلماً تاريخياً يزخر بالذكريات وإنجازاً معمارياً صامداً منذ قرون رغم الهزات التي تعرضت لها المدينة عبر التاريخ. وبالتأكيد فإن العالم الإسلامي ليس بحاجة إلى نزاعات ذات طابع ديني مع جزء رئيسي من دول العالم وشعوبه، علماً أن العالم الإسلامي يخوض مواجهات سياسية من أجل الحفاظ على هوية الأماكن الإسلامية كما هو الحال مع المسجد الأقصى المبارك في القدس المحتلة. ولا شك أن هذا القرار في تركيا من شأنه أن يضعف هذه المواجهة وغيرها، مثل أملاك الكنائس المسيحية في القدس وغيرها من مدن فلسطين التي تتعرض للاستيلاء عليها بطرق شتى تتغطى بغطاء واهٍ من القوانين.

وأبعد من ذلك فإن هذا الأمر ينعكس سلباً على التوجّهات لحفظ حقوق المواطنين المسلمين في بلدان شتى من العالم وبالذات في آسيا في هذه الآونة، حيث يتعرض جزء كبير منهم (بالملايين في واقع الحال) لحملات تنكيل وتضييق ممنهجة، من جراء التعصب الديني والقومي وأحياناً العلماني الذي يسود في تلك البلدان.

وفي نهاية المطاف فإن الجميع في العالم يدرك أن تركيا بلد إسلامي ويدين شعبها بالإسلام، وهي ليست بحاجة إلى المبالغة في إظهار هذه الهوية، غير أن الكثيرين يدركون وبالذات في بلاد الأناضول نفسها أن تركيا ذات دستور علماني، وان مجتمعها يتوافر على تعددية اجتماعية وثقافية، مما جعل هذا البلد مزيجاً من الشرق والغرب، وجذب السائحين إليه، والمطلوب هو الحفاظ على هذا الرصيد المعنوي والرأسمال الحضاري.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"