ماكرون الحاكم - الحَكَم للبنانيين

04:22 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عصام نعمان

أُعطى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عدة ألقاب خلال زيارته الثانية للبنان؛ منها أنه «مفوّض الغرب الأوروبي والأمريكي لإنقاذ لبنان»، أو أنه «الجنرال غورو المعاصر» الساعي لترسيم معالم لبنان على عتبة مئويته الثانية.
كل هذه الألقاب تصحّ في كثير أو قليل؛ لكن اللقب الأكثر واقعية ودقة، في نظري، هو «ماكرون الحاكم - الحَكَم»؛ ذلك أن ماكرون حرص في كل تصريحاته على تذكير مستمعيه بأنه رئيس جمهورية فرنسا، وأنه «متطوع»؛ لإنقاذ لبنان واللبنانيين من محنتهم المستفحلة، وأن ما يطرحه على رؤسائهم وقادتهم هي مجرد أفكار يتوجّب عليهم هم أن يبتّوا بها تحت طائلة تحديد المقصّرين والمرتكبين، وإيقاع العقوبات بحقهم.
ماكرون متواضع بلا شك، وشديد اللياقة في طرح ما يريد ويصرّ عليه؛ لكن إصراره على ما يريد ويشترط؛ تجلّى فيما قاله للرؤساء اللبنانيين ولقادة الأحزاب والكتل البرلمانية ال8 الذين اجتمع بهم في قصر الصنوبر؛ (مقر السفارة الفرنسية) وأمهلهم حتى آخر شهر أكتوبر/تشرين الأول؛ لتنفيذ ما التزموا به من إصلاحات تحت طائلة تنفيذ عقوبتين بحقهم: التوقف عن تنظيم المؤتمرالدولي لدعم لبنان المزمع عقده في باريس، وتسمية المسؤولين اللبنانيين المتهمين بالفساد والمرتكبين لأعمال مضرة ببلادهم، ما يؤدي إلى إيقاع عقوبات دولية بحقهم.
التلويح بالعقوبات؛ عزز رأي القائلين بأن ماكرون في زيارتيه للبنان (وربما الثالثة في ديسمبر/كانون الأول القادم) يمثّل الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وليس بلاده فقط. غير أن حرص الرئيس الفرنسي على التواصل مع قادة «حزب الله» وعدم اعتباره تنظيماً ارهابيا،لا يضعه في موقف متعارض مع أمريكا فحسب؛ بل مع ألمانيا وبريطانيا أيضاً، اللتين تقفان من الحزب موقفاً سلبياً.
هذا الجانب من زيارة ماكرون، سيتضح في المستقبل القريب مع زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شنكر للبنان وجولته المرتقبة على مختلف المراجع الروحية، والقيادات السياسية التي تواصل معها الرئيس الفرنسي، وأدلى بتصريحات لافتة؛ بعد اجتماعه بها.
هل نجح ماكرون في مهمته؟ لعله نجح في حمل القيادات اللبنانية الرئيسية على الإقرار بضرورة الإصلاح في جوانب متعددة من حياة البلد السياسية والادارية والاقتصادية، وفي ضرورة التخلي عن أساليب العمل التقليدية التي لم تؤدِ إلاّ إلى التسويف والمماطلة، وبالتالي إلى تدويم حال الفساد والمحسوبية والمحاصصة الطوائفية والجمود.
صحيح أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري كانا استبقا زيارة ماكرون الثانية بخطابين لافتين أكّدا فيهما التزامهما بضرورة انتقال البلاد من النظام الطوائفي الهرم إلى الدولة المدنية، إلاّ أن هذا التطور المهم ما كان ليحصل لولا الحدث الجلل؛ وهو الانفجار الهائل في مرفأ بيروت، ولولا اغتنام الرئيس الفرنسي لهذا الحدث خلال زيارته الأولى، ودعوته القيادات السياسية اللبنانية إلى الاتعاظ وضرورة المباشرة في تغيير النظام، وإرساء عقد سياسي جديد.
الى ذلك، ينهض سؤال ملحاح حول الحافز والمصلحة اللذين يدفعان الرئيس الفرنسي إلى الإهتمام الزائد بلبنان في هذه الآونة. ثمة من يعتقد أن فرنسا خاصةً ودول أخرى في الاتحاد الأوروبي عامة تشكو مما تسميه تغوّل تركيا في سياستها النفطية في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وخصوصاً تدخلها العسكري في ليبيا واحتكاكها بمصالح عضوين في الأسرة الأوروبية هما: اليونان وقبرص. وقد ازداد حضور تركيا السياسي والأمني في هذه المنطقة حتى بلغ لبنان، ولاسيما في منطقتي طرابلس وعكار الشماليتين؛ حيث تقطن مجموعة من التركمان. وقد تعالت في الآونة الأخيرة هتافات مؤيدة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في التظاهرات التي اندلعت في طرابلس كما في بيروت بعد الانفجار الهائل في مرفئها.
لا يخفى على ماكرون أن أردوغان يحظى بتأييد جارف من «الإخوان المسلمين» وخصوصاً في لبنان، وأن قيامه بتحريك هؤلاء ضد فرنسا المؤيدة لموقفي اليونان وقبرص من مسألة التنقيب عن النفط والغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط لن يسيء إلى مصالح فرنسا فحسب؛ بل إلى مصالح دول الاتحاد الأوروبي أيضاً، ما يدفع ماكرون مع حلفائه إلى إبعاد تركيا عن محاولة اعتماد لبنان ساحة للضغط عليهم بشكل أو بآخر، أو منافستهم على إعادة إعمار مرفأ بيروت.
باختصار، الحاكم - الحَكَم الفرنسي متعدد المهام، وسيكون دائم الحضور في لبنان ومحيطه الجغرافي، ومستعداً لمجابهة الخصوم والمنافسين بلا هوادة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

مُجاز في الحقوق ودكتور في القانون العام ومحام منذ السبعينات .. أستاذ محاضر في القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية زهاء عشر سنوات .. نائب ووزير سابق .. له مؤلفات عدة وعديد من الأبحاث والدراسات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"