عالم ما بعد العولمة

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

يذهب المتابعون للشؤون الدولية إلى أن العالم انتقل خلال جائحة «كوفيد-19» بسرعة هائلة من مرحلة العولمة بكل ما تعنيه من تبعية متبادلة بين اقتصاديات الدول، إلى مرحلة يمكن وصفها بما بعد العولمة، وذلك بعد أن واجهت الدول الأوروبية، التي شهدت انتشاراً خطِراً للجائحة خلال الأشهر الأولى من هذه السنة، ندرة كبيرة في المستلزمات الطبية نتيجة لعدم احترام العديد من الدول الصناعية الكبرى لقواعد حرية التجارة، الأمر الذي دفع الأوروبيين إلى استخلاص دروس قاسية ومؤلمة دفعتهم إلى الاقتناع بضرورة تقليص تبعيتهم للمنتجات الأجنبية التي يمكن أن تتحول فجأة إلى عملة نادرة ويصبح من الصعب الحصول عليها في وضعيات استثنائية مثل الأزمات الصحية الكبرى.

 وبصرف النظر عن النقاش الذي يمكن أن يتشعب بشأن نهاية ما هو «قبل» المرتبط بفترة سيادة العولمة وبداية ما «بعد العولمة» وتجليات كل ذلك على مستوى الساحة الدولية، فإنه بالإمكان ملاحظة – وفق ما يذهب إلى ذلك نوربير غيار– أن هناك حالة من التسارع في التطورات الدولية المتعلقة بما بعد العولمة، ليس فقط بسبب الجائحة التي أعادت للدول القومية أهميتها وجزءاً معتبراً من سيادتها الاقتصادية والصحية، لكن أيضاً بسبب قيام الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس ترامب بالتخلي عن قواعد حرية التجارة وفرضها لعقوبات على الصين بعد أن اكتشفت أن العولمة تخدم مصالح بكين أكثر مما تخدم مصالحها.

من الواضح في كل الأحوال أن العالم سيظل بحاجة إلى المحافظة على التعاون الدولي لتجنب الانهيار الكامل للاقتصاد العالمي، بيد أن هذا التعاون سيتجاوز دون أدنى شك قواعد العولمة المأزومة التي تأسست خلال فترة الأحادية القطبية، من أجل احتواء التحولات التي تحدث على مستوى موازين القوى الجديدة التي يشهدها العالم؛ تحولات بدأت تظهر بشكل تدريجي مع بداية الألفية الجديدة وخطت خطوات عملاقة مع ظهور الأزمتين الصحية والاقتصادية خلال هذه السنة، التي دفعت الكثير من الدول إلى البحث مجدداً عن الاكتفاء الذاتي والسعي إلى إعادة الكثير من الصناعات التحويلية التي جرى نقلها سابقاً إلى آسيا من دولها الأصلية، وذلك في سياق خطة تهدف إلى التحكم مستقبلاً في مسار العولمة وصولاً إلى تشكيل عولمة مغايرة بناء على قواعد جديدة.

وفي مقابل كل ما يقال عن مظاهر الانتقال نحو مرحلة جديدة في العلاقات الدولية تتجاوز العولمة المعتلة، فإن هناك أسئلة كثيرة ما زالت تُطرح بشأن قدرة النظام الدولي على التخلي عن اقتصاد ليبرالي مرتبط بعولمة مفتوحة تقودها شركات متعددة الجنسيات تتجاوز مصالحها سيادة الدول القومية، بخاصة أن هذه الشركات خلقت أوضاعاً اقتصادية وسياسية من الصعوبة بمكان تغييرها. وهي وضعيات أضحت فيها آليات السوق العابرة للحدود هي المتحكمة في سياسات الدول الصناعية، وبالتالي هل سيكون من اليسير بالنسبة للحكومات إبطال كل مفاعيل العولمة وإعادة كل النسيج الصناعي من آسيا إلى أوروبا وأمريكا؟ وهل ستكون الأزمة الصحية العالمية كافية للانتقال إلى ما بعد العولمة ولاستعادة الدول القومية لسيادتها على ثرواتها الاقتصادية؟ وهل سيكتفي هذا الانتقال بالتركيز على القطاعات الاستراتيجية ذات الصلة بالأمن الصحي والغذائي أم أنه سيطال قطاعات أخرى كالتقنية التي تتجاوز من حيث خصوصياتها الإنتاجية قدرات الدول القومية؟

 تقودنا مثل هذه الأسئلة إلى التساؤل أيضاً عن مدى قدرة الدول القومية، خاصة في أوروبا وآسيا، على إعادة بناء علاقاتها مع محيطها الدولي انطلاقاً من معايير جديدة تتجاوز ما جرى تأسيسه حتى الآن منذ نهاية الحرب الباردة، بخاصة أن المواجهة القائمة بين واشنطن من جانب، وبكين وموسكو من جانب آخر، تفرض على باقي الدول تحديد طبيعة خياراتها الاستراتيجية.

ونستطيع أن نلاحظ بشكل جلي أن العالم يتجه نحو مرحلة تتجاوز العولمة في صورتها القديمة، لكنها لا تمثل نهاية لها بقدر ما هي محاولة لإعادة تعديل مسارها وفق نموذج ستظل معالمه رهينة المصالح والتوازنات السائدة ومرتبطة بموازين القوى القائمة بين الدول العظمى التي ستضطر، عندما يصل الصراع بينها إلى ذروته، إلى التوصل إلى توافق يحافظ على مصالحها ويجنب الجميع تبعات سقوط «معبد العلاقات الدولية» على رؤوس رواده. كما يمكننا أن نخلص إلى أن رواد عولمة «ما بعد» العولمة الراهنة، التي بدأت أركانها تتصدع بسبب الجائحة، يجدون أنفسهم مجبرين على إعادة الاعتبار لسيادة الدول القومية التي ستظل تمثل القلعة الحصينة التي تلجأ إليها الشعوب عندما تواجه تحديات استثنائية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"