الإنسان في بعد واحد

00:19 صباحا
الصورة
صحيفة الخليج

يحيى زكي

تحدث المفكر الألماني هربرت ماركوز، يوماً عن «الإنسان ذو البعد الواحد» الذي تصنعه وسائل الإعلام عبر توجيهه من خلال آليات عدة ليسلك أسلوباً ترسمه هذه الوسائل، ويؤمن بالأفكار التي ترددها. هذه الأطروحة كانت في عام 1964، واختبر ماركوز صحتها من خلال تحليل مستفيض على طرائق عمل ومحتوى وسائل الإعلام الرأسمالية والشيوعية، وما يجعلها راهنة اليوم، ذلك الفضاء المسمى بمواقع التواصل الاجتماعي، بما يتضمنه من أخبار ورؤى وأطروحات باتت أكثر جاذبية من وسائل الإعلام التقليدية؛ بل وتدعي التنوع والتعدد ولا تنتمي كما تعلن عن نفسها لأيديولوجيا إقصائية محددة سلفاً، كما كان الوضع في زمن ماركوز.

من الناحية التقنية، نشعر جميعاً بسرعة هذه الوسائل في نقل الأخبار بصورة تتفوق على الصحف وأحياناً وكالات الأنباء، ولكن هذه السرعة لها ضريبتها المتمثلة في الأخبار الكاذبة والشائعات التي كانت الوسائل التقليدية تتجنبها بقدر الإمكان عبر آليات عدة.

يبدو في الظاهر كذلك، أن هذه المواقع تتميز بالتنوع في الرأي، فالكل أصبح يعبر عن نفسه مباشرة في الخبر أو القضية أو أي مسألة، ولكن هو تنوع شكلي، حيث لم تبرز حتى الآن أفكار ملموسة يمكن الإمساك بها وصياغتها في أطروحات جديدة، الأهم من ذلك أنها لا تخلو من أيديولوجيا خفية مراوغة تمنح البسطاء شعوراً خادعاً بالحرية، ولكنها توجههم بمكر نحو ما تريد، فضلاً عن عجزها عن تغيير قناعات الأكثر معرفة، والذين يشاركون برأيهم ولكنهم ثابتون على قناعاتهم.

أما العثور  في تلك المواقع  على معلومة حقيقية ذات وزن فضرب من الخيال، فضلاً عن الذاكرة السمكية. فهي في حالة تغير وتحول لحظي، وكلها سمات تتناقض مع كل وسائل الإعلام التي عرفها الإنسان بداية من الكتاب وحتى التلفزيون.

لقد غزت العولمة البشر من خلال تنميطهم في المأكل والملبس والسينما، وكان لابد من فسحة للتنفس تشعرنا بالتنوع والتعدد، تمثلت في واقع افتراضي ومواقع تواصل يمارس فيها الجميع الحرية بلا سقف، ولكن بلغة متدنية، وبكتابة تمتلئ بالأخطاء الهجائية، وب«منطق» لا يصمد أمام أبسط قواعد العقل أو الحس السليم.

الأزمة الحقيقية تكمن في هؤلاء الذين ينتقدون هذه المواقع في الصباح والمساء، ويعرفون سلبياتها ويمتلكون قدراً واسعاً من الثقافة يمكنهم من تحليل ألاعيبها، ولكنهم لا يستطيعون اتخاذ القرار بمقاطعتها؛ بل ورويداً رويداً تستهلك أوقاتهم وتهيمن عليهم ببطء، وهو تحول جوهري في مفهوم النخبة، فللمرة الأولى يتبع المثقفون والمفكرون العامة، بدلاً من التأثير فيها، وهنا الخطر المتمثل في سؤال المستقبل: وماذا بعد؟ وهل سنتحول جميعاً على مختلف مستوياتنا العلمية والفكرية إلى بشر ذي بعد واحد؟

عن الكاتب: