رقعة الشطرنج التركية

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

وصف كمال كليجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض، إقالة برات آلبيرق وزير مالية بلاده، أنها «التضحية بالوزير من أجل حماية الملك»، ووصفُ أوغلو المستمدّ من أدبيات لعبة الشطرنج هو إشارة واضحة إلى مأزق الرئيس التركي الذي دعاه إلى الإطاحة بأقرب المقربين منه، فوزير المالية هو في الوقت نفسه صهر الرئيس، وساعده الأيمن في تنفيذ الكثير من المهمات داخل المؤسسات التركية، وأحد المسؤولين المباشرين عن العلاقات مع واشنطن، نظراً لعلاقات آلبيرق بجاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومستشاره، والمسؤول عن ملفات مهمة في الشرق الأوسط.

 قبل إقالته بأيام استخفّ وزير المالية بتداعيات هبوط قيمة العملة الوطنية أمام الدولار واليورو إلى مستويات غير مسبوقة، واعتبر آلبيرق أن «الاقتصاد التركي في وضع جيد»، في تناقض واضح لمعظم مؤشرات الاقتصاد التركي، والذي يعد اليوم المشكلة الكُبرى، بحسب المحللين الاقتصاديين الأتراك أنفسهم، لكن هذا التصريح، ليس السبب الوحيد لإقالته، فهناك حاجة فعلية لدى الرئيس أردوغان لإيجاد كبش فداء لما وصلت إليه الأحوال الاقتصادية التركية، والتي أصبحت فاقعة ومؤثرة إلى درجة لا يمكن تجاهلها.

تضحية الرئيس التركي بساعده الأيمن، تمّ وضعها من قبل محللين كثُر في سياق تصاعد الخلافات السياسية الداخلية ووصولها إلى قلب العائلة الحاكمة؛ حيث لم يعد من الممكن بالنسبة للرئيس أردوغان إلّا أن يجد تضحية كبيرة، تكون مقنعة سياسياً وشعبياً، إلا أن السياق الأهم لهذا الحدث هو سياق سياسي/ اقتصادي، يرتبط بمجمل الأوضاع في رقعة الشطرنج التركية، فتكبد الاقتصاد التركي خسائر كبيرة خلال السنوات الماضية له أسباب موضوعية، ترتبط بمجمل السياسات الخارجية للرئيس وحزبه «العدالة والتنمية»، وبطريقة إدارة الدولة ومؤسساتها، بعد تحوّل الدولة التركية إلى النمط الرئاسي، وتجميع أكبر قدر من السلطات بيد الرئيس.

وقبل إقالة وزير المالية من منصبه، وبحسب تسريبات من حزب «الحركة القومية»، حليف «العدالة والتنمية» في الحكم، فإن أردوغان كان قد طلب من سليمان صويلو، وزير الداخلية، التحقيق في مزاعم بمحاولة انشقاق ما بين 30 إلى 40 نائباً من الحزب الحاكم، وتهديدهم بالانضمام إلى حزبي «المستقبل» الذي يقوده رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، وحزب «الدواء» الذي يقوده وزير الاقتصاد السابق علي باباجان، وقد كانت مطالب النواب الذين هددوا بالانشقاق إقالة وزير المالية من منصبه.

وإذا كان من المعروف بأن استقرار الاقتصاد وازدهاره في أية دولة مرتبطان أشدّ الارتباط باستقرار سياساتها الخارجية، ومتانة العلاقات مع الجوار الإقليمي، والتفاهمات الدولية، فإن تراجع المؤشرات الاقتصادية يعكس مستوى الاضطراب في السياسات الخارجية، وعدم قيامها بأداء مهامها المرتبطة باستقرار النظام السياسي/ الاقتصادي، وهو ما يعني بالضرورة وجود خلل كبير في طبيعة التوجه والأدوات المستخدمة في بناء استقرار منظومة العلاقات الخارجية، وبالنظر إلى خريطة الاقتصاد التركي في العقد الأخير فإن هذه الخريطة تعرّضت لتقلبات حادة في مستويات ومجالات عديدة، نظراً لتبدل السياسات الخارجية. 

تدهور علاقات تركيا الإقليمية والدولية، ترك آثاراً كارثية على عدد من القطاعات الحيوية التركية، فقطاع السياحة وحدَه شهد تراجعاً بنسبة تجاوزت 70% قياساً إلى سنوات ما قبل 2011، وهو قطاع حيوي، ليس فقط للشركات السياحية التركية، وإنما أيضاً بالنسبة لقطاع كبير من الفئات الشعبية، كما أدّى مجمل التراجع في المؤشرات الاقتصادية إلى خفض التصنيف الائتماني للمؤسسات المالية التركية، خصوصاً بعد وصول العجز التجاري التركي إلى أكثر من 170%، وخفض التصنيف الائتماني أدى إلى توليد الكثير من المشكلات المالية، من بينها انخفاض قدرة المؤسسات على دعم الليرة التركية في مقابل الدولار واليورو بشكل خاص.

تراجع الاقتصاد والعملة التركيين لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل خلال ما يقارب من العقد، وفي هذه المسيرة عدد من المحطات المفصلية، كان يمكن خلالها إعادة تقييم مجمل السياسات الخارجية والداخلية، وتحويل المسار من المواجهة على مستوى الخارج إلى البحث عن آليات لإيجاد نظام إقليمي أقل اضطراباً، لكن عوضاً عن ذلك، انخرطت تركيا أكثر فأكثر في اضطرابات الإقليم، والذهاب نحو مواجهات سياسية مع أوروبا، واستعادة سياسات استعمارية قديمة بأدواتها البالية، وخطابها غير المقنع، كما أن «العدالة والتنمية» خسر الكثير من قياداته المؤثرة، بالإضافة إلى خسارة مكتسبات تاريخية في فصل السلطات، لمصلحة هيمنة المؤسسات التنفيذية، كل ذلك كان من شأنه أن يترك أثره على ثبات وقوة أحجار رقعة الشطرنج التركية، إلى أن أصبح ضرورياً القيام بتضحيات كبيرة، ليس مؤكداً بعد مدى كفايتها لحماية الرئيس/ الملك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"