اجتماعيات التقدم

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

لا يسْتَتِبُّ للتّقدّم أمرٌ في أيّ مجتمع يخوض في المَسْعى إليه من دون أن تتجسَّد قِيمُ التّقدّم وظواهرُهُ في المجتمع فيصير تقدُّمًا اجتماعيًّا. ما من معنًى، مثلاً، لتقدُّمٍ اقتصاديٍّ أو تكنولوجيّ أو لتنميةٍ ماديّة لا تنعكس في المجتمع وتستفيد من ثمراتها قوى المجتمع وفئاته كافّة. بالقدْرِ عينِه، ما من تقدّمٍ يمكن إحرازُه في البنى السّياسيّة والاقتصاديّة والتّكنولوجيّة والعلميّة والثّقافيّة في مجتمع متخلّف، أعني في نطاق بنية اجتماعيّة محكومة بقيم وعلاقات تقليديّة كابحة للتّقدّم. لذلك يتوقّف التّقدُّم في مجتمع مّا على توفُّر شروط مناسبة له: في علاقاته ونظام قيمه.

 ويُقاسُ التّقدّم في المضمار الاجتماعيّ (Le social) بمدى ما يحصل فيه من تحوُّلٍ إيجابيّ على صعيد علاقاته البيْنيّة الناظمة، وعلى صعيد قيمه الحاكمة لسلوك أفراده وجماعاته، وبما يتولّد من التّحوّل ذاك من رسوخ تقاليد في العلاقات جديدةٍ، ومن تشبُّع المجتمع – أفرادًا وجماعات – بقيم مفتوحة جديدة تصير لديه بمثابة ثقافةٍ جمْعيّة عميقة. ونحن نشير، في هذا المعرض، إلى ثلاثٍ من أهمّ تلك القيم التي لا يكون تقدُّمٌ من دونها، والتي يُمثّل تجسُّدها الماديّ في الأفعال العلامةَ على تحقُّق التّقدُّم الاجتماعيّ.

أوّلى القيم، التي نعني قيمة المساواة بين الجنسين. لا نعني بذلك تلك المساواة القانونيّة التي تنصّ عليها التّشريعات الرّسميّة (ولو أنّ النّقص والخَلَل يعتوِران هذه على هذا الصّعيد أيضًا)، وإنّما نعني بها – في المقام الأوّل – المساواة الاجتماعيّة أو، قل، المساواة المُسَلَّم بها من قِبَل المجتمع نفسه. هذه مسألةٌ بالغة الأهميّة في كسب معركة المساواة؛ فقد لا تجد تشريعات الدّولة نفسُها (في المساواة) طريقها إلى التّحقُّق إن لم تكن لدى المجتمع قابليّة لتَلَقّيها بالقبول. ومن مقتضيات المساواة الاجتماعيّة مغالبة النّزعة البطْرِيَرْكيّة والذّكوريّة في المجتمع، والحدّ من تأثيراتها السّلبيّة وصولاً إلى اضمحلالها وزوالها، من أجل تحرير نصف المجتمع من القيود التي تُلقيها عليه النّظرة الدّونيّة إلى المرأة وإرادة استبعادها وهضم حقوقها. وكما أنّ تشريعات الدّولة، وسلطانها القانونيّ، قمينة بفرض أحكام المساواة على المجتمع الذّكوريّ وتجريعه إيّاها كَرْهاً، فإنّ التّربيّة على قيمة المساواة والتّثقيف بها وحدها يُسيغانها ويرسّخانها في الوعي الفرديّ والجمْعيّ.

 ثانية القيم تلك قيمة التّسامح ونحن نأخذ بها في صُوَرها المختلفة كافّة: التّسامح الفكريّ، والتّسامح الاجتماعيّ، والتّسامح الدّينيّ...إلخ. لا يمكن لمجتمع مّا أن يتقدّم فيما هو مصابٌ – في ذهنيّته العامّة كما في سلوكه الجمْعيّ – بالتّعصُّب والميْل إلى الواحديّة (بلِ الأوحديّة) في التّفكير والتّصرُّف، وإلى الحربِ الكلاميّة والفعليّة على الآخرين في ما ينتحلونه لأنفسهم من اعتقادٍ أو من مسْلكٍ في الحياة والاجتماع مخالفٍ لِمَا دَرَجَ عليه الأغلبون. الهندسةُ الاجتماعيّةُ التي من هذا الضّرب لا تقود إلاّ إلى التّنميط الاجتماعيّ وإلى كُلاّنيّة مجتمعيّة أشدِّ سوءاً من الكلاّنيّة (التّوتاليتاريّة) السّياسيّة، وهي لذلك – بالتّالي – تَضْرب القيد على إرادة التّقدّم فيه. التّسامح وحده يعيد إلى المجتمع اعتبارَه. يسلّم بما فيه من تَعَدُّدٍ وغنًى ومن خصوصيّات غيرِ قابلة للوأد دون تعريض المجتمع لتأزُّمٍ حادّ في علاقاته البينيّة. هكذا يفتح التّسامح البابَ أمام قيام مجتمعٍ مفتوح حرّ لا مكان فيه للوصاية إلاّ ما يفرضه القانون. في مثل مجتمع التّسامح هذا، فقط، تتحرّر الطّاقات وتنمو مَلَكاتُ الإبداع والإنتاج، ويشعر الجميع بالأمن الاجتماعيّ والثّقة البيْنيّة.

 أمّا ثالثة القيم تلك فقيمة الاعتراف. وهذه أعلى درجة، في سُلّم القيم، من التّسامح والاختلاف، لكنّها لا تمتكن إلاّ متى ترسّخت القيمتان تيْناك في المجتمع. الاعتراف ضدّ الإنكار، والإنكار لا يبني بل يخرّب ويهدم ويلغي وبالتّالي، يؤدّي بالمجتمع – مثل التّعصّب – إلى الاحتقان والصِّدام: اللّفظيّ أو الفعليّ أو هما معاً. والاعتراف تسليمٌ بحقوق الآخرين وامتناعٌ عن اهتضامها ومصادرتها تحت أيّ عنوان. ولذلك فهو يُضمر أيمانًا بأنّ الاجتماع الوطنيّ والتنميّة والتّقدّم تُبنى بمساهمةٍ من الجميع (من أبناء الوطن) أيًّا تكُن مِلَلُهم ونِحَلُهم وأفكارُهم وأنماطُ سلوكهم، وأنّ الجميع محمولون على الاستفادة من خبرة الجميع لأنْ لا أحد يملك أن يدّعيّ لنفسه العصمةَ في التّفكير والفعل.

 من النّافل القول إنّ القيم الثلاث، المومأ إليها، إذ تنمو في مجتمعٍ مّا وتنتشر وتَرْسخ، تمرِّن المجتمع ذاك تمرينًا مديدًا على الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة، وهي أعلى مرتبة من الدّيمقراطيّة السّياسيّة، بل عليها هي يتوقّف رسوخُ الأخيرة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"