الكتاب الأبيض في بيت الحكمة

23:28 مساء
قراءة 3 دقائق

صالحة عبيد غابش

تصطف في الرف مجموعة من كتب بيضاء، حين تتصفحها تجدها فارغة، فتتساءل أين الحكمة في كتاب غلافه لاتصميم فيه ولاعنوان، وصفحاته تخلو من أي فقرة، أو جملة، ولاحتى كلمة أو حرف.. كتاب مجهولٌ موضوعه وكاتبه؟.

لكنك حين تقف في حضرة اصطفافه بالشكل الأفقي، تفاجأ بأنه مسكون بالتاريخ، وأنك تدخل عبر بياضه إلى حكايات ووقائع ملونة بالأمل والألم معاً، حكايات إنسان كان فيه، يجلس في أعمق مكان في الفكر، وأرقى محيط في الوجدان، يستحوذ على وَقْتِ عاشق هذه الحكايات فيتتبعها ويضعها في صفحات كانت ملونة، لكنها وبسبب إنسان آخر تحكمه سطوة الجهل والظلام، أزال ملامح تلك الحكايات بإلقائها في ماءٍ شربها حتى أترع منها «ربما ليحميها».. فأصبحت بسبب ذلك بيضاء.

إنه عالمٌ آخر للمعرفة، يجعلك تبحث ما وراء هذا البياض، لتكتشف أنه وحده غارقٌ في لغةٍ معدةٍ لقراءةٍ أخرى.. ربما تشعر بها، أو تسمعها آتية من ذلك التاريخ.. إنه تاريخ بغداد العلم والثقافة والأدب والإنسانية..

هل تتذكرون تلك الحكاية التي لاتزال تدمعنا دماً.. حين نتذكر كيف أصبحت كتبها الضخمة العامرة بالعلوم والأدب والثقافة والمعرفة بيضاء بعد أن عاثت فيها يد الظلام محواً وتدميراً، فسالت كلماتها دماءً في نهر دجلة الذي اصطبغ ماؤه العذب بلونها، فامتزجت تأليفاً ونقلاً ونصوصاً، تاريخاً وتوثيقاً وحقائق..؟

ولأن التاريخ يحتاج لمن يحبه ويعشقه ككل شيء في حياتنا التي لا تستمر إلا بهذا الوقود مهما انطوت عليه حقائقه من آلام ومشاهد ربما لا نرغب في القراءة عنها أو تذكرها، فإن صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، يقف في مواجهة التاريخ، معبراً عن عاطفة عظيمة تجاهه، نابضة بالفكر العاشق للبحث، والاستغراق في تفاصيل هذا التاريخ، وسموه يعيش فكرة إعادته بشكل آخر غير نصوص وحقائق تضمها الكتب، ولكن في كيان مبهر يضعه في إطار مشهد عصري.

هل ستعرف الأجيال كثيراً عن بيت الحكمة في بغداد وهم يعبرون باب البيت الجديد للحكمة في الشارقة، فيرونه متجسداً بقصص شائقة وواقع انطوى على عز وشعور بالفخر؟، وأي شعور نشعر به اليوم بأجداد مضوا كانوا يأتون بأهل اللغات الأخرى إلى بغداد يعلمونهم العربية؛ كي يعرفوا قراءة مؤلفات العرب والمسلمين، ثم يترجموها بلغاتهم ويعودوا لبلدانهم بكنوز لم تكن حتى محل حلم في منامهم أو يقظتهم؟ نعم، لِمَ لا نفخر بهذا المنجز ولا نتوقف دائماً عند مقولات محبطة كتلك التي تقف حائلاً دون لحظة مبهجة نعيشها، كقولهم مع إعادة الصياغة: «الفخر بالماضي لا يثري الحاضر فخراً».

في بيت الحكمة بالشارقة حكاياتٌ أخرى كحكاية الكتاب الأبيض، فقط دع أولى خطواتك على مدخله، لتجد فكرك مأخوذاً بالحلم.. هُنا سأقرأ، هنا سأجدني جزءاً من تاريخ عظيم، هُنا سأتناول قهوة.. هُنا سأكتب.. وهُنا سأبحث.. هُنا سأجدد معرفتي وثقافتي وسأجدد ذاتي، ففي بيت كهذا تتنقل بين زوايا الجمال فيه.. فتتشكل من حواسك بعض كلام كالذي يسمى شعراً، مصاغاً من صوتِ ماءٍ يرش هذه الحواس بصفائه، ومشهد عشب يرسم فيك موسماً للربيع، وباقات زهور على أغصانها لا يتنافى حضورها مع حضور الحكمة، كما لا يتنافى أبداً مع محتوى القلب.

تخرج، ومعك هذا الجمال كله..

تاريخ يبقى أثراً تنبض به ذاكرتنا العربية..

ومشاهد تغرس فيك الشوق للعودة مجدداً إلى هذا البيت.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتبة وأديبة إماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"