«التسارع» وحرب الإلغاء الطبقية

00:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

«المسافة تغتالها السكك». بهذه العبارة وصّف الشاعر الألماني هاينريش هاين تأثير القطارات على التحولات التي أحدثتها القطارات على الحياة البشرية، وإذا كان الفضل العلمي في ابتكار سكك الحديد يعود للمهندس الإنجليزي جورج ستيفنسون، فإن هذا الابتكار الذي غيّر خريطة ممكنات النقل والانتقال البشريين، كان ثمرة لتطورات علمية أنجزتها الثورة الصناعية، وامتداداً لتطور حاجات السوق الرأسمالي، وضرورة تسريع انتقال البضائع والأفراد عبر المدن والدول والقارات، وقد تمّت بلورة مفهوم توأم لمفهوم «التسارع»، مرتبط بالتحولات التي أحدثتها القطارات، وهو مفهوم «ضغط الزمن»، الذي يعد اليوم أحد المفاهيم المعيارية في وصف ظاهرة العولمة، ويتأسس هذا المفهوم على جدل فكري متعدد الأبعاد، حول دور التقنية في تغيير علاقة الإنسان بالزمان والمكان على حدّ سواء.

 في عام 1848، قدّم الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني كارل ماركس أول تفسير نظري للدور الذي لعبته الرأسمالية في تغيير العلاقات بين الأمم، معتبراً أن التقدم التكنولوجي من شأنه أن يمهد الطريق إلى «التواصل في كل اتجاه، والاعتماد العالمي المتبادل بين الأمم»، لكن ماركس كان مهتماً في حقيقة الأمر، ليس فقط بدراسة آثار نمط الإنتاج الرأسمالي على العلاقات بين الأمم، وإنما بشكل رئيسي بمستقبل الصراع الطبقي الذي أوجده هذا النمط من الإنتاج، والذي قسم المجتمع إلى طبقتين، رأسمالية، تتحكم بالإنتاج وتراكم الثروات والمال، وطبقة العمال التي تقوم بالإنتاج، ومحرومة واقعياً من الامتلاك.

 تاريخ نظام السوق الرأسمالي ليس واحداً من حيث التطور، أو من حيث شكل الصراعات التي خاضتها الأمم الرأسمالية، ولا من حيث النتائج، كما أنه لم يكن يمضي في طريق مستقيم على طول الخط، وعرف انتكاسات كبيرة، أفضت إلى نتائج كارثية في أوقات معينة من التاريخ الحديث، لكن هذا النظام بقي الموجّه الرئيسي لكل الحركة الاقتصادية العالمية، وقد فرض نفسه بفضل ديناميات متعددة، من بينها التوسّع الاستعماري في القرنين التاسع عشر والعشرين، لكن في صميم هذا النظام، بقي التطور التقني عاملاً حاسماً في توجيه دفة هذا النظام، وتحديد مساراته، وتشكيل الخيارات الكبرى للمجتمعات والدول.

 سياق تطورات النظام الرأسمالي، أوجد عدداً من الصراعات، تمتد من داخل المجتمعات الرأسمالية وصولاً إلى الصراعات بين الدول الرأسمالية نفسها للهيمنة على الموارد والأسواق، وفي خضم هذه الصراعات، حاولت معظم دول العالم في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية التكيّف مع تحولات هذا النظام، ودفعت أثماناً باهظة له، من بينها الخضوع المستمر للقوى المهيمنة فيه، وتباطؤ أو فشل العمليات التنموية، بفضل سلطات محلية لعبت دوراً وظيفياً في النظام الرأسمالي، لكن شعوب الدول الرأسمالية عرفت انتعاشاً ورخاء اقتصادياً ومعيشياً، بفضل الفوائض الكبرى التي تحققها حكوماتها من الهيمنة على الموارد والأسواق والشعوب الأخرى.

 لكن التطور الأبرز الذي عرفه تاريخ النظام الرأسمالي هو العولمة، والتي تمّت بفضل تقنيات البرمجة التي زادت من حدة التسارع، ونتج عنها ضغط غير مسبوق في الزمن، لكن هذا التطور غيّر الكثير من ديناميات النظام الرأسمالي نفسه، وأوجد تحولات عميقة بما يخص تقسيم العمل التقليدي، أو توصيف الطبقتين الرأسمالية والعاملة، كما أن احتدام الصراع بين القوى المتنافسة في العولمة، بدأ يفرض تحولات في أسواق العمل الرأسمالية نفسها، وبفضل هذا التحول ستتراجع المكتسبات التي حققتها الطبقات العاملة المحلية، كنتيجة طبيعية لتحولات دورة الإنتاج ومتطلباتها الجديدة.

 وبناءً عليه، كان بدهياً أن تشهد الولايات المتحدة، بوصفها رائدة النظام الرأسمالي، تصاعداً في الصراع الطبقي والاجتماعي، وهو ما ظهر جلياً في الانتخابات الرئاسية، حيث مثّل الرئيس الأسبق ترامب مصالح الرأسمالية التقليدية، في الوقت الذي دعمت فيه الشركات العولمية خصمه جو بايدن، الذي يمكن أن نعتبر نجاحه، في ضوء هذه القراءة، فوزاً للرأسمال العولمي، الذي تمثله شركات الرقمية العملاقة، وشركات التجارة الإلكترونية، لكنه قد يكون أيضاً، بداية لحرب إلغاء شرسة ضد الفئات المنتجة التقليدية، وتراجع مكاسب الطبقة الوسطى وانكماشها، ليس فقط في أمريكا، بل في معظم الدول الرأسمالية. فالتسارع الهائل في ضغط الزمن، لم يكن متاحاً بفضل التقنيات الجديدة وحسب، وإنما أيضاً بفضل تحالفات غير مسبوقة بين كبار ممثلي الرأسمالية العولمية، الذين يخوضون حرب إلغاء طبقية، لن تكون شعوب الدول الرأسمالية بمنأى عنها، فهذا ما بدأ يقوله الحدث الأمريكي الراهن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"