لا «سيلفي» هناك

00:09 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

يطالعنا على الموقع الإلكتروني لشبكة «بي. بي. سي» تحقيق شائق، تفصيلياً، عن خمس بلدات عمرها قرون، حيث يعود إنشاؤها إلى عام 1012، أقيمت على قمم التلال في الأطراف الشمالية للصحراء الكبرى في الجزائر، محصنة بالوادي المعروف باسم «مزاب»، ويشار إليها باسم القصور (المدن) الخمسة، ويعيش فيها قليل من السكان في بيئة وصفها التحقيق بالقاسية.
أمور كثيرة تلفتنا في هذا التحقيق عن المدن وأهلها، الحريصين جداً على التمسك بعاداتهم الموروثة، التي يخشون أن تتأثر بما يأتي به أي وافد إليها، سواء أكان هذا الوافد من البشر أو من العادات والسلوكيات، وهو أمر حرصت الجهات الرسمية المختصة على احترامه ومراعاته، فوضعت مجموعة من القواعد الناظمة لزيارة هذه المدن، بينها أن يلتزم جميع الزوار، بمن فيهم الجزائريون، بعدم دخولها إلا برفقة مرشد سياحي محلي، «من منطلق الواجب وليس الوظيفة»، للحفاظ على نمط حياة الناس هناك.
بالإضافة إلى حظر التدخين في المزارات التاريخية لأسباب دينية، وارتداء الملابس غير المحتشمة، يمنع التقاط صور «السيلفي»، واستخدام الهواتف المحمولة بشكل عام، وعلى لسان أحد المعنيين بتنظيم الشأن السياحي هناك نقرأ: «نحن شعب ودود ونرحب بالزائرين، لكننا نطلب منهم أن يحترموا نمط حياتنا، فهذا وطننا، وليس مجرد خلفية لصورة على موقع إنستجرام».
طقس التقاط الصور «السيلفي» بات عادة سياحية بامتياز، وهو في الحقيقة، استمرار، في ظروف اليوم، لتقليد سابق، قبل اختراع الهواتف الذكية، حرص عليه السياح وهو التقاط صور لهم في الأماكن السياحية التي يزورونها، سواء أكانت مدناً أو مواقع أثرية وسياحية، كنوع من توثيق ذاكرة حدث قد لا يتكرر ثانية.
لكن الدراسات المختلفة تتحدث اليوم عن «هوس السيلفي»، فلم يعد الأمر يقتصر على توثيق ذاكرة السفر، خاصة لأماكن تاريخية أو مدن عريقة وما إلى ذلك، وإنما استحال إلى نوع من الإدمان المَرضي عند بعض المهووسين بهذا «السيلفي». وفيما كان الناس في السابق يتصوّرون لأنفسهم، أي ليحتفظوا بالصور في ألبومات كذاكرة شخصية لهم ولأفراد عائلاتهم ولأبنائهم وأحفادهم من بعدهم، فإن صور «السيلفي» وما هو في حكمها، متاحة على حسابات الأفراد على مواقع التواصل، أي كفت عن أن تكون شأنا خاصاً، بل أصبحت متاحة لدوائر أوسع من الناس لا يعرفهم أصحاب الصور أصلاً.
أحببت قول المسؤول السياحي في المدن الجزائرية الخمس من أنهم لا يريدون لأمكنتهم أن تكون مجرد خلفية على «إنستجرام»، لكن أنى لهذا القول أن يصمد في عالمنا الذي بات يعرف بعالم الصورة؟
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"