توهم الحقيقة

01:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

منذ تفتح وعينا الأول في هذه الحياة؛ تبدأ أدمغتنا في استقبال وتخزين كل ما تتلقاه من محيطنا الاجتماعي في اللاوعي، ومع الوقت تكاد عقولنا تتبرمج تلقائياً على الكثير من الأمور؛ باعتبارها مسلمات وثوابت معرفية تتدثر بأقنعة عُرفية دينية وأخلاقية حيناً، واجتماعية وثقافية (عادات وتقاليد) معظم الأحيان، وفي الغالب لا يجوز الخروج عنها، ويصبح مجرد التفكير فيها أو مراجعتها ومناقشتها من الخطايا الكبيرة التي لا يغفرها العقل الجمعي، فتستحيل إلى أنساق ثقافية راسخة في الوعي؛ بل حاكمة في السلوك والممارسة، وتترك بصمتها على قراراتنا اليومية، ومجمل أحكامنا القيمية؛ لما هو صواب أو خطأ، نافع أو ضار، حلال أو حرام، ناهيك عن تأثير الأنا والنوايا في بعض الأحيان في تلك القرارات.
ولا يخفى على أحد أن هناك العديد من الرواسب الفكرية الخاطئة التي نشأنا عليها وأثرت في شخصياتنا ومدركاتنا، ونلاحظ أن غالبية الرواسب الفكرية التي تحجب العقل عن التفكير المنطقي تكون ذات علاقة بالحياة الاجتماعية.
المشكلة تكمن في صعوبة تغيير تلك المفاهيم، لأن الإنسان يتأثر بما نشأ عليه من عادات ومفاهيم ومعتقدات، وبالتالي يكون من الصعب عليه إعادة النظر فيها بوصفها تحولت إلى مسلمات جامدة ومكبلة لفكر الإنسان، وعلى سبيل المثال فقد كانت مسألة تعلم الفتيات سابقاً من أبرز تلك العادات الخاطئة، كذلك كان الزوجان سابقاً يتقابلان للمرة الأولى في ليلة الزواج فقط، وربما كانت هذه الأمور والسلوكيات مقبولة فيما مضى، وقد احتاجت لسنوات عديدة لتغييرها، ولكن هل يتطور فكر الإنسان اجتماعياً وثقافياً بنفس سرعة تطور الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا التي نشاهدها اليوم؟
للإنصاف، ليست كل المسلمات الاجتماعية خاطئة، فقد يكون بعضها صحيحاً، وقد تكون أوهاماً تبنيناها جيلاً بعد جيل، ظناً منا أنها المعرفة الصحيحة، إلا أنها في حقيقة الأمر مجرد ممارسات تحكم قراراتنا وتحجب وعينا، ولأنه من المخيف أن يكون وعينا الحالي زائفاً، فلابد من التحقق مراراً من كل قرار أو حكم نتخذه.. هل هو حكم مسبق راسخ في فكرنا، أم حكم يتوائم مع الواقع الجديد الذي نعيشه، أم أنه حكم يستدعي إعادة تحليل وتفكير بمنطق منفتح أكثر؟
صحيح أن كل دولة تفخر وتعتز بتراثها وعاداتها وثقافتها وحضارتها، وتعتبرها جزءاً من هويتها الوطنية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الفكر لا يمكن أن يتطور، خصوصاً في بعض العادات والقوانين الاجتماعية، فلكل زمن قيمه ومتطلباته، ولنكن أكثر تعقلاً ووعياً للقرارات التي نتخذها بشأن أبنائنا، والأحكام التي نصدرها بشأنهم.
الخلاصة أنه لا ينبغي لعقولنا أن تبنى على تصورات وقوالب تناقلناها وتبنيناها كما هي، ورسمت وجوهاً مختلفة للحقيقة، وإنما نريد أن نحسن إدارة عقولنا؛ كي لا تكون مجرد أوعية تستقبل فقط، بل تفكر وتحلل المواقف التي تتعرض لها، لنصبح قادة فكر إيجابي نعرف كيف نفرق بين الوعي الحقيقي والوهم. لتكن هويتنا هوية تعايش وتسامح، هوية احترام وإنسانية، بتقبل التغير في الفعل والفكر والممارسة.
أنهي مقالي بمقولة الكاتب والمفكر السعودي إبراهيم البليهي: «من ينشأ في الصين يتربى على الكونفوشية ومن ينشأ في أوروبا يكون بروتستانتياً، ولكن ما ننشأ عليه ويصبح معياراً لكل أحكامنا في الحياة نثق به ونعتبره حقيقة مطلقة لأن الإنسان يذوب في المجتمع وهو مبرمج للتلقي ونحن نشحنه بما نسميه الهوية، بدلاً من أن نعلم الإنسان أن يتحرر من الأفكار المسبقة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"